هل كان جبرا بطلاً في قصة لبورخس؟

ثقافة 2023/11/30
...

 نوزاد حسن

لم تكن بغداد مدينة عادية في نظر جبرا ابراهيم جبرا. فهذا المقدسي الغريب أحب بغداد إلى درجة ساحرة وصادقة في الوقت نفسه. ولا أظن أنني أبالغ لو قلت إن حياة جبرا كانت قبل كل شيء رحلة بحث عن بديل لمدينته القدس التي ارتحل عنها للدراسة، ثم لأحداث سياسية معروفة.وربما يكون من المهم الإشارة إلى أن جبرا يبحث عن مدن فاضلة بمواصفات يضعها هو لهذه المدن. وأعتقد أن أهم ما يفكر فيه جبرا وهو يحاور المدن التي زارها ودرس فيها وتأملها هو ذلك الماضي الذي يتجسد من حوله في الحجارة بحيث يكون التاريخ ناطقا وهامسا في الوقت نفسه.

من المؤسف أن مزاج جبرا هذا لم ينتبه له أحد، أعني لم يقف أحد أمام هذا الاحساس القوي الذي كان يتفجر في كلماته وهو يتحدث عن القدس بتاريخها المرئي أو بغداد بحضورها وانبثاقها كمعجزة من مدينة بابل العريقة.

 لكن جبرا وصف لنا ما كان يحس به في ما كتبه، وتطرق في أحد الحوارات التي أجريت معه إلى قضية غامضة بعض الشيء تتعلق بوجهة نظره عن علاقة الماضي بالحاضر. وضمن هذا الحوار في أحد كتبه. فحين يسأله الصحفي قائلا له: أين أنت الآن؟ يجيبه جبرا وكأنه يحكي له حلما رآه قبل دقائق، يقول: (أنا هنا وفي كل مكان. أحيانا لا استطيع النوم لأنني موزع في كل مكان. والنوم لا يتحقق إلا إذا التأمت الأجزاء معا. هذا بالنسبة للمكان، ولكني أيضا موزع في أزمان كثيرة أريد لها أن تتعاصر. ورغم اصراري على أهمية المنظور الزمني في معالجة كل أمر فأنني أرى عهد سومر في كل عصر)، (الفن، والحلم، والفعل، جبرا ابراهيم جبرا، دار الشؤون الثقافية، بغداد، ص257-258).

هل هذا الكلام او هذه الاجابة منطقية إن شئنا أن نكون صريحين في تقويمها والحكم عليها. أظن أن كثيرا منا لن يفهموا ما قاله جبرا فهما جيدا.

لكن لنعد إلى جو الحوار. ويبدو أن الصحفي فوجئ بنبرة كلام جبرا، ولم تصله الروح التي سمع حفيف اجنحتها قبل قليل فيساله الصحفي مرة أخرى، وكأنه يريد أن يفهم: بأي معنى؟ وأنا أجد العذر لهذا السؤال، فما قاله جبرا يفوق ما أعتدنا أن نفكر فيه أو نحسه. وكانت إجابة جبرا تفصيلية وإنسانية. لنقرأ إجابة جبرا: (بمعنى أنا أرى أحداث الماضي، وهي تتواشج مع أحداث العصر الحاضر. أرى مآسي الحقب كرموز تجد تجسيدا لها في أحداث معاصرة. أرى في الشعر الحديث شعر جلجامش. أرى تداخل الماضي بالحاضر عند نقاط لا تعد ولا تحصى. وليست سومر إلا مثلا واحدا. فحقب التاريخ كثيرة قد تتوازى ولكن الحاضر كخط يقطع الخطوط المتوازية جميعا، وبذلك يلتقي الحاضر بالماضي على نقاط ومستويات يتفاوت الناس في وعيهم لها تفاوت ذكائهم وثقافاتهم.. المصدر السابق258).

كان لا بد من نقل إجابة جبرا بالكامل، لأنها ستكون مثل مفتاح يفتح لنا بعض ما قد نراه غير مفهوم  أو مقفل.

 في إحدى قصصه يتحدث بورخس عن شخص يحصل على ذاكرة شكسبير. لكن هذا الشخص لم يستطع أن يتحمل حالة الفوضى والتداخل الزمني لمختلف العوالم الموجودة في ذاكرة شكسبير فيبحث عن شخص آخر ليعطيه الذاكرة، ويتخلص بذلك من عبء عوالم الكاتب المسرحي الانكليزي شكسبير. وما أراد بورخس التعبير عنه في قصته كان جبرا يعيشه، وهو سعيد بهذه الهبة الالهية التي جعلته لا ينام، لأنه موزع في أمكنه وأزمنة كثيرة. 

ويبدو لي أن بطل بورخس كان غبيا جدا، لكنني أفهم جيدا رغبته، وانزعاجه من ذاكرة غنية بالأحداث والوقائع، فكلما قلص الإنسان ذاكرته ومحتويات عقله سيعيش بطاقة الروتين. وفي حدود مملكة الروتين سيكون كل شيء مسيطرا عليه، وستكون الحياة كلها خاضعة سجينة باهتة خلف أسوار عقل بطل بورخس ومن يشبهونه. 

ولعل جبرا أشار إلى الناس الذين يشبهون ذلك الشخص الذي لم يتمكن من تحمل أن تكون ذاكرة شكسبير من نصيبه حين علق على تفاوت مستويات ذكاء الناس وثقافاتهم.

 إن جبرا وهو يتحدث عن نفسه، وإحساسه بلقاء الماضي والحاضر في أعماقه، إنما كان يصف حريته التي لا حدود لها في جسد محدود، لم ير فيه الكثيرون سوى مقدسي قدم من فلسطين ليدرس في بغداد، أما أعماق الروح، وعالم التجربة الداخلية فقد كان من نصيب جبرا، وقد عبر عنه بلغة لا أظن أن الكثيرين سيفهمونها.

جبرا كان أكثر عمقاً من بطل بورخس، وأكثر منه رهافة في الحس،  لكن كيف لنا أن نفهم كلام جبرا، وما علاقة ما قاله ببغداد التي عاش ومات فيها، وهو يحلم حلما غريباً سنتحدث عنه بعد قليل؟

جبرا كان يعرف جيداً أنه قد تحرر من سجن العقل الساكن، لندقق في وصفه على أنه لا ينام، لأنه موزع في الأمكنة والأزمنة. وهذا يعني أن العقل لم يعد كغرفة مغلقة على أشيائها. هذا الانفتاح الداخلي هو ما يمكن أن اسميه ايقاف العقل المحلي الروتيني ومزجه بقصص التاريخ وملاحمه الكبيرة.

في العادة يقرأ الإنسان التواريخ، ليعرف ما جرى في الماضي، إلا أن جبرا تجاوز أفق هذه المعرفة المحدودة، ليصل إلى الإحساس العميق، بأنه نقطة لقاء لتواريخ عديدة تعيش في داخله.

لم يستخدم جبرا التاريخ على طريقة الطائفيين والاكاديميين الذين يبحثون عن استخلاص نتائج تفيدهم في الحاضر. هذا أسلوب العقل في تحليل قضايا التاريخ، لكن لقاء الماضي بالحاضر يعني بالنسبة لجبرا قضية أخرى تخص الجمال والخيال قبل العقل. ومن هنا يمكنني وصف تجربة جبرا غير العادية، بأنها لحظة تمرد على عقله المحلي الساكن، وكان لا بد له أن يستخدم خياله حين يكتب عن بغداد بلغة مختلفة أيضا.

في التاريخ الإنساني مجال كبير من الألم والعبرة لا بد من الاحساس به. أعني أن الماضي يشبه هوة عميقة تنتظرنا وتهاجمنا وتختلط بحياتنا. ومن المنطقي أن تكون ذاكرة الإنسان ملكا شخصيا له، لأن في هذه الذاكرة ملفات حياته التي عاشها، وما رافقها من انفعالات. ما إذا خالط هذه الذاكرة ماض لا يخصها، هو تاريخ لمدن وأماكن مختلفة، فهذا يعني أننا أمام امتداد مقلق ينسف فكرة الإنسان المنطقي المحدود الذي يشبه الإنسان الالي بشكل كبير.  حين قرأت مقاله “بغداد في سياق زمني” احسست بقوة بحضور الخيال، وغياب مفهوم استخدام التاريخ لأثبات فكرة يؤمن بها هذا الأكاديمي، أو ذاك الطائفي.

ما الذي فعله جبرا في مقاله الجميل الذي يشبه تبريرا ضروريا أن بغداد ليست مدينة عادية، وإنما هي مكان غير طارئ على هذا العالم، وأن لها مستقبلا عظيما ينتظرها. في الواقع لا يمكن أن نفهم جبرا، إذا نظرنا اليه نظرة عقلانية بحتة، لأن احساس جبرا أفلت من عقله، وكان لا بد أن يكتب عن بغداد بعد أن رسم خياله مسيرة تاريخية رائعة لهذه المدينة. لذا سنكون أمام لغة لا تختلف كثيراً عن لغته التي استخدمها وهو يكتب عن القدس.

مقاله عن بغداد في حقيقة الأمر قصيدة متدفقة تعكس تفرده الروحي الذي  تمرد على المعرفة الجاهزة التقليدية في اكتشاف العالم. تدفق سحري للغة تريد أن تشعرنا بأن لبغداد هوية أخرى لم يلحظها الكثيرون. ولعلنا نقول إنه تحدث عن بغداد بلغة عالم نباتات تشبع بالضوء، والفت اصابعه مداعبة الأوراق الخضراء في دفء وأمل. لنقل إن نبتة بغداد كانت لها جذور تشابكت مع مدينة عريقة هي بابل، وأن بغداد وإن كانت عباسية الولادة، إلا أنها انتظرت في رحم التاريخ لتنبثق كمعجزة خارقة. 

(لقد أنتظرت بابل زهاء اثني عشر قرنا إلى أن وجدت نفسها أخيرا، تبعث بكل بهائها وبريقها على بعد ثمانين كيلو مترا منها على ضفاف مدينة دجلة، وذلك أن موجة أخرى من الطاقة البشرية كانت قد تصاعدت من أعماق الجزيرة العربية. وانقذفت بكل عنفوانها على شواطئ وادي الرافدين منذ اللحظات التي اقتحمها فيها خالد بن الوليد، والمثنى بن الحارث الشيباني، وسعد بن ابي وقاص برجالهم وفرسانهم. وبرزت بغداد كما بين عشية وضحاها من ذلك السهل الرسوبي الذي انبت بابل. بعثت الحياة من جديد في الجذور البابلية، وفي غضون سنوات قلائل كانت بغداد اعجوبة الدنيا، وكسالفتها بالضبط أصبحت الثروات البشرية ومعارفها تصب فيها، وتعاد صياغتها كيما توزع في أرجاء العالم- الفن والحلم والفعل ص201).

أظن أن لغة الشعر واضحة في هذا المقطع من مقال يغلب عليه هذا الصدق الذي لا صنعة فيه، لأن الكتابة في التاريخ تحتاج إلى أشياء كثيرة من أهمها الروح التي تحس بكتلة ميتة من الماضي. في الغالب يفحص التاريخ بعقل يريد أن يكتشف ما يؤيد وجهة نظر الكاتب جبرا قلب العملية، وقادنا إلى جهة حددها هو لنا. إنها تاريخ مدينة مليئة بحياة عضوية.. تاريخ نبتة معمرة وارفة تغطي بظلالها العالم كله.

لا يمكننا أن نفهم مقاله عن بغداد بمعزل عن حنينه إلى القدس، لذا استغرب كيف غاص جبرا في طوفان كتابات النقد التي أرادت أن ترسم له صورة مختلفة عن صورته الحقيقية التي قد يكون من أهم ملامحها معاناة داخلية عميقة وصاخبة حيث التاريخ بكل ملاحمه يتفجر من دون صوت في ذاكرته. هذا يعني أن جبرا المقدسي لن يعيش كأستاذ جامعي، ولن يعشق الأمكنة بصورة شكلية، كما لا يمكن أن نصنفه على أنه كاتب ومترجم وباحث وشاعر إلى ما هناك، علينا أن نقترب أكثر منه، ومن عالمه الداخلي وحزنه الإنساني العميق.

أظن أن جبرا أضاف إلى احساسه كفلسطيني نكهة تتجاوز حس الفلسطيني الذي أحب وطنه، وتألم من كل ما جرى له.. في رأيي أن جبرا تجاوز بمراحل طويلة ذلك الاحساس العام - لو صحت العبارة الذي يصور المدينة التي عشنا فيها على أنها فردوس مفقود- هي كذلك بلا شك، وجبرا كان يرى القدس كذلك، لكن كيف طور كفلسطيني أسلوبا جديداً في الاحساس بالأمكنة جعله يضع معياراً ذوقيا روحيا لقانون العيش في المدينة التي يختارها؟

أعتقد أن جبرا نجح بالاندماج الكامل في حياته البغدادية بسبب احساسه العميق بالمسرح التاريخي المتحرك في أعماقه، ومن هنا يمكنني القول إن التنوع في الخارج ليس بذي قيمة ابدا، بدليل أن التنوع ذاته يراه الطائفيون والمتزمتون، لكنهم لا يحسون به.. لماذا؟ لأن التنوع لا بد أن يلتقي بالتنوع الداخلي الذي يضرب محتوى العقل المحلي.

أغلب الفاشلين ينتهكون أسرار العالم والثقافات ويحتقرون عوالم تخص البشر الآخرين، لأنهم لم يتمكنوا من أن يجعلوا عقولهم تحس ببركة اللقاء بثقافات وأفكار الناس المختلفين عنا.. لكن الذي حدث في حالة جبرا ابراهيم جبرا هو شيء آخر جديد وغريب في الوقت نفسه.. التنوع التاريخي والأزمان والأمكنة كانت كلها مادة غير ميتة في مركز شعوره، وفي أعماق روحه، وهناك فرق بين التاريخ الحي الذي نتعلم منه، فيصنعنا من جديد والتاريخ الميت الذي نريد أن نكتشف فيه وجهات نظرنا، وكأننا نكتبه من جديد بصورة ميتة جافة.

في الواقع التقى التنوع العقلي عند جبرا بالتنوع في المكان والزمان اللذين عاش فيهما، ولعلنا نتمكن من أن نفهم معنى تعلقه ببغداد هذه المدينة التي أسرته بحيث ظل فيها حتى وفاته.