مَنْ قتلَ فان غوخ؟

ثقافة 2023/11/30
...

 عزالدين بوركة

لماذا قطع «ڤيسنت ڤان غوخ» أذنه؟ «من أجل معشوقته ليبرهن لها عن حبه وإخلاصه»!. لم يكن للمنتحر/ القتيل بسبب المجتمع، كما يصفه أرتو معشوقة سوى الفن! إنها مجرد حكاية تحولت إلى سردية تتناقلها الألسن، حتى تهب دراما “فان غوخ” مأساة رومانسية تنتهي دائما بموت البطل البئيس والفقير، من أجل حب مستحيل لم يكتب له الاكتمال.. لكن بالمقابل يمكن عدّ حب هذا الرسام للفن، حبا من طرف واحد، دفعه إلى فقدان العقل قبل الأذن.. حب أخذ صاحبه إلى مصحات الأمراض العقليَّة، وملازمة طبيب ومعالج، أو أن يظل أحيانا حبيس غرفته الزرقاء.

حدث ذلك في أمسية من ليالي فرنسا، سنة 1888.. بعد مشادات كلامية مع رفيق سكنه غوغان Gauguin، هذا الذي كان يعشق كل ما هو بدائي، ويشارك الجنون عينه مع “ڤان غوخ”، إلى حدود معينة.. لكن من عساه كان ليتحمل هذا الأخير، سوى أخيه ثيو Théo.. الذي أغدق عليه بالكرم المعنوي والمادي. وبفضله باع لوحة وحيدة طيلة حياته.

صوت ما في أعماق بحار اللاوعي قال لرسام عباد الشمس: “خذ المقص! مزق الأذن! شحمة الأذن! برهانا لإخلاصك لصديقك!، رفيق الغرفة والجنون”.. خُيٌل له أن أذنه كفيلة بإبقاء غوغان بقربه..  قد كان ڤيسنت في حاجة ماسة لفنان يؤمن بموهبته! لأحدهم يفهم ما يصبو التعبير عنه، أن يستوعب سماواته الملتوية ألوانها، ودروبه المتعرجة وضرباته الصباغية العنيفة والمضطربة، وألوانه الخامة، وصفرة الحقول المتلاحمة مع الأفق.. وأن يسمع لتلك الأصوات عينها التي تأمره بأن يرسم.. بأن يُصوّر انتصارا للضعفاء الذين من أجلهم تعلم الانجيل والتبشير.

لن يؤمن أحد بفن هذا المجنون، سوى أخيه وخطيبة أخيه.. التي سوف ترث كل شيء. مات ثيو بعد ڤيسنت بأشهر معدودات.. لقد اخترقت الرصاصة بطن الأخير، وأصابت فؤاد الأول. ماتا معا برصاصة واحدة، بمحبة أخوية واحدة.. ويا لها من تراجيديا!

بعدما قطع أذنه، صوت ما أمر فان غوخ العاشق المولع بالفن منذ عمر 26، والذي ترك التبشير والدير، وقال له: “ضالتك في الفن!، فرّ إلى الحقول، إلى عباد الشمس”.. لم يلج معهدا أو مدرسة فنيّة، لقد رُفض في بعضها.. ورَفض بعضها. الموهبة لا نمتلكها، بل إنها نداء وقد استجاب لندائها ڤيسنت. ألهذا قطع أذنه؟ بعدما تعب من نداءات الأعماق؟ بعدما يئس من عدم الاعتراف؟ بعدما قضى 8 سنوات متنقلا بين غرفة في فندق حقير، وغرفة في مستشفى المجانين! هل كان مجنونا حقا؟ أرتو يخبرنا أننا كلنا مجانين أما فان غوخ هو العاقل الوحيد! فقد خلدّ الأثر، قطع الأذن، في العديد من اللوحات، جاعلا من صورته موديله الخاص.. ليس نوعا من النرجسية والأنانية المفرطة، بل لأن داء الفقر لم يسمح له في امتلاك موديلات مثل باقي الفنانين.. 

الرجل المنزوع الأذن.! هكذا يجب عنونة قصة هذا “العبقري”. المنبوذ! المتروك لمصيره! المجيب على النداء الأخير الذي قاده للانتحار، في رواية أخرى قتيل شجار طائش بين مراهقين! تستر على الأمر بعدما أراد أن يتخلص من موهبة فاضت عن اللزوم..

يحكى أنه حينما كان لا يجد الماء أمامه كان يلحس الفرشاة ليغير الصباغة؛ لقد كان يلتهم الألوان والأشكال، لهذا تحول دماغه إلى سماء من الدوائر اللونية.

مات الرجل وفي خاطره شيء من الفن.. مات فقيرا وعاش مغتنيا بالفن.. مات بعدما قلب موازين التصوير، لا انطباعيا مثل مجايليه، ولا واقعيا كما أراده الآخرون أن يكون، ليعترفوا به.. أسس بغير رابط يذكر رفقة سيزان ثورة ما بعدية، سوف تمهد لكل ما سيأتي من بعد في القرن 20.

تمرد فان غوخ على ڤيسنت، وعاش ما اختاره، وفعل ما أراد فعله.. قطع الأذن شكل من أشكال اختياراته الحرة.. نوع من البيرفورمانس (العرض الأدائي) السابق لأوانه.. تعبير يتفوق على كل مدراك العقل وكل حدود الجسد في زمنه.. كان علينا أن ننتظر إلى حدود القرن الماضي، حتى نفهم فان غوخ. الذي لم يقترف أي ذنب، سوى خطيئة الفن.. وإنه صرخة ضد كل مشاغل علم النفس، مثلما يصرخ أرتو على امتداد نصه العسير، نص/ إدانة وتأبين... للكاتب/ المسرحي وللفنان/ الرسام معا. نص بيد واحدة ولكن بروحين.. وحدهم “المجانين” يفهمون بعضهم البعض أكثر، ووحدهم الفنانون يدركون المدارك عينها.. لقد فهم أرتو فان غوخ، فجعله بطلا مجتمعيا، لم ينتحر بل دُفع إلى الانتحار.. لأن المتجمع لم يمتلك آنذاك القدرة على فهم ما يخالج فنانا مهوسا بالألوان.. لهذا يعلن صاحب “منتحر المجتمع” قائلا: إنه على “المرء أن يكون حرا في اختيار جنونه، حتى يتوافق مع إحساسه بالنزاهة، وأن يتمرد على كل تلك المؤسسات التي تحاول بكل جهدها أن تقيّده”.

من قتل فان غوخ إذن؟ لا تكاد الإجابة عن هذا السؤال تلقى إجابة مهمة، فقد حاولت السينما في ثلاثة أفلام على الأقل، أن تجيب عنها، كل مخرج بطريقته الخاصة.. وحاولت السير الغيرية التي كُتبت عن تاريخ هذا الفنان، أن تجيب أو تتحامل بالإجابة على أشخاص بعينهم، أو أن تنهي الحكاية بانتحار إرادي أو خاطئ للفنان.. لكن بالنسبة لكاتب “المسرح ومضاعفه” ليس فان غوخ إلا ضحية لمن يلغون عن أنفسهم صفة الجنون، هؤلاء الذين تعرضوا، منذ نهاية القرن الخامس عشر، إلى وباء التفكير في عزل المختلف في مكعبات اسمنتية، سوف يسمونها العيادة أو مستشفى الأمراض العقلية. فيتحول الجنون إلى “حضور مسبق للموت” بتعبير

فوكو.

بهذا المعنى، حُكم على فان غوخ بالموت، مثلما شعر أرتو أنه محكوم عليه بمثله، منذ أن نُطر إليه على أنه مجنون. حُكم عليه بالانتحار.. بالإقصاء والعزل وعدم الفهم.. تاريخ العالم قبل القرن الخامس عشر، هو تاريخ الجنون، حيث أحتل المجنون مكانة الحكيم.. لكن في لحظة فارقة صار عارا أن تصير مجنونا، أو أن تولد كذلك.. الجنون هنا ليس حمقا بل يأتي بمعنى الاختلاف.. فكل مختلف بات يُنظر إليه نظرة المجنون الذي يشكل خطرا على المجتمع العقلاني الذي بدأت يزدهر والتطور تحت لواء “التحديث”.

لم يكن أبدا ليؤمن فان غوخ بالحداثة، وبالعقل، وبالأنا.. لقد كان جزءا من المجتمع وحمل على عاتقه الدفاع عن الضعفاء، عن المنبوذين، عن آكلي البطاطا.. وعمال الفحم.. والمساجين الذي يحومون في دوائر بلا نهاية تشبه دوائر سمائه المفتوحة على لا منتهى الزرقة ولمعان النجوم الوضاءة والحقول الصفراء. بقد تنكر من أناه.. فقد كتب متألما ومتسائلا إلى أخيه، في آخر رسائلهما: “عزيزي ثيو.. إلى أين تمضي الحياة بي؟ ما الذي يصنعه العقل بنا؟ إنه يفقد الأشياء بهجتها ويقودنا نحو الكآبة، إني أتعفن مللا لولا ريشتي وألواني هذه، أعيد بها خلق الأشياء من جديد، كل الأشياء تغدو باردة وباهتة بعدما يطؤها الزمن، ماذا أصنع؟ أريد أن أبتكر خطوطا وألوانا جديدة، غير تلك التي يتعثر بصرنا بها كل يوم”.

 لهذا كتب أرتو متحدثا عن فان غوخ قائلا: “[صار] يصيبني التصوير الصباغي الخطي بالجنون، حالما صادفت فان غوخ الذي لا يُصوّر خطوطا أو أشكالا، بل أشياء من الطبيعة الخامدة كأنها عمرة بالاضطرابات”. إذ عنده “لم يكن فان غوخ مجنونا، لكن لوحاته كانت عبارة عن نيران إغريقية، وقنابل ذرية، والتي كانت زاوية رؤيتها، مقارنة بجميع اللوحات الأخرى التي كانت منتشرة في ذلك الوقت، قادرة على إزعاج الانصياع بشكل خطير لبرجوازية الإمبراطورية الثانية”.

لقد كان أرتو هو فان غوخ، روح واحدة في جسدين، وزمنين مختلفين، مثلما كان غوستاف فلوبي هو مدام بوفاري، حيث اختلط الحقيقي بالمتخيل، والذكوري بالأنثوي، ومثلما كان فوكو مثلهم جميعا، تاريخا من الجنون. لم يمت فان غوخ “الفنان”، أبدا، فهو حي في جنونه، في لوحاته.. أما من مات فهو ڤيسنت “الجسد” “قتيل/ منتحر المجتمع”.