مدنيو غزة يقتلون بوتائر لم يعرف مثلها التاريخ
• لورين ليثربي
• ترجمة: أنيس الصفار
تطرح إسرائيل موضوع موت المدنيين في قطاع غزة على أنه أمر مؤسف، ولكنه جزء لا مناص منه في الحروب الحديثة، وللتأكيد على ذلك يذهبون إلى التذكير بالخسائر البشرية العظيمة جراء الحملات العسكرية التي قامت بها الولايات المتحدة نفسها ذات يوم في العراق وسوريا. بيد أن مراجعة سريعة للنزاعات الماضية والمقابلات التي أجريت مع المصابين أنفسهم وخبراء الأسلحة، تظهر بوضوح أن الهجوم الإسرائيلي كان شيئاً مختلفاً.
فرغم أن إحصائيات القتلى في زمن الحرب لا يمكن أن تكون دقيقة بشكل مطلق، يقول الخبراء إن أي اطلاع على إحصائيات الضحايا التي تضمنتها تقارير غزة، مهما كان متحفظاً، يكشف عن أن وتائر القتل خلال الحملة الإسرائيلية لم يكن لها نظير خلال هذا القرن إلا في حالات قليلة.
يقول هؤلاء إن الناس في غزة يقتلون بوتائر أسرع من أشد اللحظات فتكاً وموتاً خلال الهجمات التي قادتها الولايات المتحدة في العراق وسوريا وأفغانستان، والتي تعرضت هي نفسها لانتقادات واسعة من قبل جماعات حقوق الإنسان.
أسلحة فتاكة
المقارنة الدقيقة بين قتلى الحروب مسألة مستحيلة، ولكن الخبراء المتخصصين بالإصابات الناجمة عن الصراعات، صعقوا بمجرد اطلاعهم على أعداد قتلى غزة المثبتة في التقارير فقط – ومعظمهم من النساء والأطفال – وكذلك من السرعة التي وقع بها ذلك.
لم يقتصر الأمر على سعة نطاق الضربات وحجمها فقط، (إذ تقول إسرائيل إنها استهدفت أكثر من 15 ألف هدف قبل التوصل إلى وقف قصير لإطلاق النار قبل أيام)، بل هو متعلق أيضاً بطبيعة الأسلحة المستخدمة.
الحرية التي مارستها إسرائيل في استخدام أسلحة بالغة الشدّة في مناطق مدنية مكتظة، مثل القنابل من زنة 2000 رطل أميركية الصنع القادرة على تسوية مبنى سكني متعدد الطوابق بالأرض، شيء مثير للاستغراب حقاً برأي بعض الخبراء.
يقول "مارك غارلاسكو"، وهو مستشار عسكري في منظمة "باكس" الهولندية ومحلل استخبارات بارز سابق في البنتاغون: "هذا يفوق كل ما شهدته خلال مسيرتي المهنية." يقول غارلاسكو: إذا أردنا إجراء مقارنة تاريخية لما يحدث من حيث ضخامة كميات القنابل التي ألقيت على مثل هذه المساحة الصغيرة، وجب علينا العودة إلى حرب فيتنام أو الحرب العالمية الثانية.
مقارنة بذلك، يعتقد المسؤولون العسكريون الأميركيون بأن القنابل الأميركية الاعتيادية التي تلقى من الجو، (وهي القنبلة زنة 500 رطل)، كانت أكبر كثيراً مما هو مطلوب لمعظم الأهداف في حروب ومعارك هذا القرن، وبها استهدف تنظيم "داعش" في المناطق المأهولة مثل مدينتي الموصل والرقّة. لكن الجيش الإسرائيلي يدعي أن غزة ميدان مختلف عن سواه، بسبب صغر مساحتها وكثافة عدد سكانها.
حصاد الضحايا
إحصاء إصابات المدنيين مسألة صعبة للغاية أصلاً، كما أن مسؤولي حماس الذين يديرون قطاع غزة لا يفصلون في إحصائيات القتلى بين المدنيين والمقاتلين.
مقابل ذلك يشير الباحثون، بشيء من التحفظ، إلى أن مقتل ما يقارب 10 آلاف امرأة وطفل في غزة وفقاً للتقارير، إنما هو تقدير تقريبي للقتلى المدنيين في القطاع. يقول المسؤولون والخبراء الدوليون المطلعون على آليات الجمع والإحصاء وإعداد التقارير التي يطبقها مسؤولو الصحة في غزة، إن الأرقام الإجمالية يمكن اعتمادها عموماً.
أما الجيش الإسرائيلي فإنه يعترف بأن الأطفال والنساء وكبار السن يتعرضون للقتل في غزة، ولكنه يشكك بصحة الأرقام الصادرة عن حماس من دون إعلان إحصائيات من جانبه.
برغم ذلك يقول الباحثون، إن وتائر تساقط القتلى في غزة وفقاً للتقارير جراء القصف الإسرائيلي مرتفعة بشكل استثنائي. فأعداد النساء والأطفال الذين قتلوا حتى الآن في غزة، وفقاً للتقارير، قد فاقت أمثالها في أوكرانيا بعد ما يقارب سنتين من بدء الهجوم الروسي، بحسب تقديرات الأمم المتحدة.
كذلك فإن أعداد النساء والأطفال الذين ثبتت التقارير مقتلهم في غزة خلال فترة تقل عن شهرين، قد تجاوزت 7700 مدني الذين تذكر الوثائق أنهم قتلوا على أيدي القوات الأميركية والتحالف الدولي خلال العام الأول من غزو العراق بأكمله في 2003، بناء على تقديرات "إحصائية قتلى العراق"، وهي مجموعة بحث بريطانية مستقلة.
كذلك فإن أعداد النساء والأطفال الذين سجلت التقارير مقتلهم في غزة منذ ابتداء الحملة الإسرائيلية في الشهر الماضي، قد اقتربت بالفعل من 12400، وهذا الرقم هو عدد المدنيين الذين تم توثيق مقتلهم على يد الولايات المتحدة وحلفائها في أفغانستان على مدى نحو 20 عاماً من الحرب، كما تقول "نيتا كراوفورد"، معاونة مدير مشروع "تكاليف الحرب" في جامعة براون.
هذه المقارنات تجرى على أساس آلاف القتلى الذين عزي مقتلهم بشكل مباشر إلى قوات التحالف الأميركي، على مدى عقود من الزمن في العراق وسوريا وأفغانستان، برغم أن هناك آخرين يقدّرون بمئات الألوف ذهبوا ضحية الصراعات مع جماعات أخرى.
مقارنات القتلى
إن يكن إجمالي عدد القتلى في تلك الحروب أكبر، فإن عدد الذين قتلوا في غزة خلال فترة زمنية قصيرة جداً يربو على أعداد قتلى أي صراع آخر، كما تقول البروفسور كراوفورد صاحبة الأبحاث الموسّعة عن الحروب الحديثة.
في معركة الموصل التي استمرت تسعة أشهر، والتي يستشهد المسؤولون الإسرائيليون بها للمقارنة، قتل ما يقدر بنحو 9000 – 11000 مدني، كان العديد منهم على يد "داعش"، وفقاً لما توصلت إليه وكالة أسوشيتد بريس، في حين سقط رقم مماثل لهذا في غزة من النساء والأطفال وحدهم خلال أقل من شهرين.
السبب الذي أدى إلى ذلك هو أن القنابل المستخدمة في غزة كانت أقوى وأعظم فتكاً، مما استخدمته الولايات المتحدة لقتال "داعش" في مدن مثل الموصل والرقّة. كان قصد إسرائيل من ذلك هو استهداف البنى التحتية وما تحت الأرض مثل الأنفاق، كما يقول "برايان كاستنر"، وهو محقق في مجال الأسلحة من منظمة العفو الدولية، وضابط سابق في جهاز التخلص من الذخائر المتفجرة في القوة الجوية الأميركية.
تعدّ غزة صغيرة الرقعة جداً مقارنة بمناطق الصراع الأخرى مثل العراق وأفغانستان وأوكرانيا، ولكن هذا لم يكن وحده سبباً، بل إن حدود غزة قد أغلقت من قبل إسرائيل ومصر، فلم يترك هذا أمام المدنيين سوى قلة من الأماكن الآمنة كي يفروا إليها.
أكثر من 60 ألف مبنى قد دمرت أو تضررت في قطاع غزة، كما يشير محللو الأقمار الاصطناعية، بضمن ذلك ما يقارب نصف مباني شمال غزة.
يقول كاستنر وهو يعني القوات الإسرائيلية بكلامه: "إنهم يستخدمون قنابل ضخمة للغاية في مناطق مكتظة بالناس إلى أبعد الحدود، وهذا أسوأ مزيج من العوامل."
ادعاءات كاذبة
يدعي المسؤولون الإسرائيليون أن حملتهم تركز على تقويض البنى التحتية العسكرية في غزة، وهذه تكون قريبة في أغلب الأحيان من المواقع المدنية أو تحتها، لذا يلجؤون إلى استخدام قنابل أكبر ذات فعل أشد."
لكن عندما سئل "مارك ريجيف"، الناطق باسم الحكومة الإسرائيلية، في مقابلة بتاريخ 24 تشرين الأول، عن وتيرة الضربات، أجاب أن إسرائيل تهدف إلى جعل حملتها أقصر أمداً من حملة الولايات المتحدة في العراق وسوريا.
أضاف ريجيف: "نحن نأمل إنهاء حملتنا بأقصر وقت، لكنها مع ذلك قد تستغرق وقتاً أطول مما يتمناه كثير من الإسرائيليين، لأن حماس لا تزال على رأس السلطة منذ 16 عاماً."
أعطت إسرائيل سكان غزة توجيهات بإخلاء المناطق التي سيستهدفها القصف بشكل خاص، لكنها واصلت ضرباتها على كافة المناطق.
يفصح المسؤولون الإسرائيليون أكثر فيقولون إن هدف هذه الحملة هو محو حماس، لأنها نذرت نفسها لتدمير إسرائيل. ويقول "يواف غالانت" وزير الدفاع الإسرائيلي، إن غزة لن تعود كما كانت من قبل، كما أن حماس لن يعود لها وجود لأن الإسرائيليين سوف يمحون كل شيء.
موقف بايدن
أما إدارة بايدن فإنها، بعد التشكيك في بادئ الأمر بأعداد قتلى غزة، عادت لتقر بأن الأرقام الفعلية للإصابات بين المدنيين ربما تكون أسوأ مما أعلن. كذلك أخبرت "باربارا ليف"، مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، لجنة تابعة لمجلس النواب هذا الشهر، بأن المسؤولين الأميركيين باتوا مقتنعين الآن بأن الإصابات بين المدنيين مرتفعة للغاية، ومن الممكن أن تكون حتى أعلى مما ذكر، على حد تعبيرها.
يقول الخبراء الدوليون الذين عملوا مع وزارة الصحة في غزة خلال الحرب الحالية وما قبلها، إن الوزارة تعكف على جمع أعداد الوفيات من المستشفيات ومشارح الطب العدلي في مختلف أنحاء القطاع، في تقارير توثق إحصائيات القتلى، وأسماءهم وأرقام هوياتهم، وتفاصيل أخرى.
يدعو هؤلاء الخبراء إلى توخي الحذر عند تداول التصريحات التي تتضمن أعداد القتلى جراء ضربة معينة بالتحديد – لاسيما تلك التي تعلن عقب التفجير مباشرة. عدا هذا يقولون إن إجمالي إحصائيات القتلى بعد جمعها وتوثيقها ثم إعلانها من قبل وزارة الصحة في غزة عادة ما تكون دقيقة.
خلال الأسابيع القليلة الماضية، أصبح تسجيل أعداد القتلى في غزة أكثر صعوبة وسط فوضى المعارك وتعرض المستشفيات نفسها لإطلاق النار المباشر، وتوقف معظم مرافق النظام الصحي عن العمل. لذا أخذ مسؤولون حكوميون آخرون يتولون عملية تحديث الأرقام المتعلقة بالقتلى بدلاً من الوزارة، لكن أعداد القتلى من نساء وأطفال في التقارير كانت قد فاقت مثيلاتها في الصراعات الأخرى حتى من قبل هذه التغيرات.
نساء وأطفال
تمثل النساء والأطفال في الإحصائيات نحو 70 بالمئة من مجموع الوفيات التي تتضمنها تقارير غزة، برغم أن معظم المقاتلين من الرجال، وهذه إحصائية ملفتة للانتباه كما صرح مؤخراً "ريك برينان" مدير الطوارئ الإقليمي في مكتب شرق البحر المتوسط، التابع لمنظمة الصحة العالمية.
في الأحوال الاعتيادية يتوقع المرء عكس ذلك، وفقاً لبرينان. ففي المعارك السابقة بين إسرائيل وحماس مثلا، كان الرجال هم الذين يشكلون نسبة 60 بالمئة من أعداد الوفيات المبلغ عنها.
لا يكتفي المسؤولون الإسرائيليون بالإشارة إلى العمليات العسكرية الأميركية التي وقعت في العراق وسوريا، بل يسترجعون سلوك أميركا وحلفائها خلال فترة الحرب العالمية الثانية. ففي خطاب بتاريخ 30 تشرين الأول استشهد "بنيامين نتانياهو" بقصف القوة الجوية الملكية البريطانية عرضاً مستشفى للأطفال أثناء استهدافها مقراً لقيادة الغستابو في كوبنهاغن في العام 1945. وخلال زيارة وزير الخارجية الأميركي "أنتوني بلنكن" لإسرائيل استعاد المسؤولون الإسرائيليون معه على انفراد ذكرى قصف الولايات المتحدة مدينتي هيروشيما وناغازاكي بالقنابل الذرية في العام 1945، الذي أسفر عن مقتل أكثر من 100 ألف إنسان. لقد وضعت قوانين الحرب الدولية الحديثة وطوّرت إلى حد كبير، كرد على فظائع الحرب العالمية الثانية، وفي العام 1949 سنّت اتفاقيات جنيف قوانين خاصة لحماية المدنيين في زمن الحرب. القانون الدولي لا يحرم حدوث إصابات بين المدنيين، ولكنه ينص على وجوب إحجام الجيوش عن استهداف المدنيين بشكل مباشر أو قصف المناطق المدنية عشوائياً من دون تمييز، كما أن الضرر أو القتل العرضي الذي يطول المدنيين بالخطأ يجب ألا يتعدى حدود الغاية العسكرية المباشرة المبتغاة.
خلال الأسبوعين الأولين من الحرب، كان 90 بالمئة تقريباً من الذخائر التي أسقطتها إسرائيل على غزة، هي قنابل موجهة بالأقمار الاصطناعية، ذات زنات تتراوح بين 1000 و 2000 رطل، كما صرح مسؤول عسكري أميركي كبير لم يؤذن له بمناقشة هذا الموضوع علناً.
تلك قنابل "ضخمة بحق"، كما يقول غارلاسكو، ويضيف أن إسرائيل تمتلك آلاف القنابل من زنات أصغر زودتها بها الولايات المتحدة، وهذه مصممة لتقليص حجم الضرر في المناطق المدنية المكتظة بالسكان، لكن خبراء الأسلحة يقولون إنهم لم يلمسوا أدلة على أن مثل هذه القنابل قد استخدمت بشكل متكرر.
مجازر موثقة
في إحدى الحالات الموثقة استخدمت إسرائيل قنبلتين في الأقل من زنة 2000 رطل خلال غارتها الجوية في 31 تشرين الأول على جباليا، وهي منطقة مكتظة بالسكان تقع شمال مدينة غزة مباشرة، الأمر الذي أدى إلى دك مبانٍ وتسويتها بالأرض وإحداث حفر يتعدى عرضها 12 متراً، وفقاً لتحليل أجرته صحيفة "نيويورك تايمز" على صور ومقاطع فيديو التقطتها الأقمار الاصطناعية. وقد أكدت شركة "أيروورز" بشكل مستقل أن 126 مدنياً في أقل تقدير قد لقوا مصرعهم في تلك الغارة أكثر من نصفهم أطفال.
تفيد تقارير الأمم المتحدة الخاصة بالحالات المثبتة لقتل الأطفال في مناطق الصراعات المسلحة، بأن أعداد الأطفال الذين قتلوا في غزة منذ بدء الهجوم الإسرائيلي قد فاقت أعداد من قتلوا في مختلف مناطق النزاعات الكبرى في العالم مجتمعة – أي ما يقارب 24 بلداً – خلال العام الماضي بأكمله، بما في ذلك الحرب في أوكرانيا.
عندما تصبح المناطق المدنية هدفاً مستهدفاً، فإن الخطر على الحياة لن ينتهي بمجرد توقف القصف، كما يقول الخبراء، لأن الدمار الذي تخلفه الحرب يضع الناس بمواجهة صراع من أجل البقاء لأمد طويل بعد انتهاء المعارك. فأنظمة الرعاية الصحية المدمرة وإمدادات الماء غير الآمنة وحدها يمكن أن تلحق بالصحة العامة مخاطر بالغة، كما تقول البروفسور كراوفورد التي تمضي مستطردة: " في كل حرب من الحروب يحدث مثل ذلك، ولكن هذا المستوى من البؤس في مثل هذه الفترة الزمنية القصيرة، شيء يصعب تخيله أو فهمه".
• عن صحيفة «نيويورك تايمز»