عدنان حسين أحمد
نظّم المركز الهندي للفنون في لندن معرضًا شخصيًا جديدًا يحمل عنوان «أفكار من طين النهرين» للفنان التشكيلي د. علاء بشير وهو المعرض الشخصي السادس والأربعون في رصيده الفني الذي يمتد منذ عام 1958م وحتى يومنا هذا.
كما اشترك في 26 معرضًا جماعيًا، وقد لفتت هذه المعارض الشخصية والمشتركة أنظار المُتلقيّن والنقاد ودفعت المتاحف ومراكز الفنون في المملكة المتحدة وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية وقطر والأردن والعراق لاقتناء العديد من أعماله الفنية والنحتية المتفردة بأشكالها ومضامينها الإنسانية التي تستدرج المُشاهد إلى غابة السؤال الفلسفي عن معنى الوجود والعدم.
يعتقد الفنان علاء بشير، وهو الدكتور المتخصص في الجراحة التقويمية والتجميلية أيضًا، أنَّ «الفن ليس للمتعة، وإنما هو أداة للبحث في الحياة والوجود والعلاقات الإنسانية» ومع أنَّ الكثير من المتلقّين، وبضمنهم كاتب هذه السطور، يجدون متعة بصرية ما في ما يشاهدونه ويتمثلونه سواء بأعينهم أو بحواسهم الست، ويختبرونه بمشاعرهم وأحاسيسهم الداخلية، إلاّ أنَّ رأي الفنان علاء بشير لا يخلو من الصواب أيضًا، ففي داخل هذا الفنان والجرّاح التقويمي والتجميلي ثمة شخصية فلسفية تفكر «خارج الصندوق» ويشكّل منجزها قطيعة مع الفن السائد، ولكي يعزّز هذا الرأي يذهب إلى القول الحاسم إنَّ «كل إنسان تابع أو مُقلِّد للآخرين، لا يمكن أن يكون مبدعًا» وأنَّ منجزه لا يتعدى حدود الاستنساخ الضوئي في أفضل الأحوال.
أحَبَّ علاء بشير الرسم منذ طفولته من دون أن يعرف السبب الذي دفعه لهذا الشغف الفني ولم يكن بين أفراد أسرته وأقاربه رسّام أو نحّات ولكنه كان يجد ضالته المنشودة كلّما رسم تخطيطًا أو نفّذ لوحة ملونة يرجّح فيها المضمون على الشكل، والمعنى على المبنى، ذلك لأنَّ الشكل إذا قارنّاه بالإنسان يمثل الجلد أو السطح الخارجي للكائن البشري بينما يمثل المضمون أعماق الإنسان كلها، وأهم ما فيها هو العقل والقلب والذاكرة والمشاعر والأحاسيس التي تتوزع بين الحُب والكراهية وما إلى ذلك.
وينظر الدكتور علاء بشير إلى الإنسان بوصفه كائنًا مُعقّدًا لا يمكن سبر أغواره بسهولة فلا غرابة أن يسعى بشكل محموم لأن يتجاوز الشكل الخارجي البيّن إلى المضمون العميق المتواري.
جدير ذكره أنَّ علاء بشير قد درس الرسم في معهد الفنون الجميلة في بغداد (القسم المسائي) بين الأعوام 1959 - 1962م، وكان يرسم مع زملائه الطلبة المناظر الطبيعية، والبورتريهات، والحياة الصامتة لكنه سرعان ما تخلّى عن رسم الأشياء المنظورة في السنة ذاتها، وسعى بشكل حثيث لرسم وتجسيد الأشياء غير المنظورة التي تتوارى خلف الأشكال والسطوح الظاهرية الخادعة التي لا تبوح بالحقائق الكامنة في الأعماق.
وقد دأب على هذا المنوال منذ العام 1959م وحتى الآن.
ويمكن أن نلمس هذا النزوع في لوحاته ومنحوتاته وحتى في «الأسكيتشات» أو الرسومات الأولية التي ينفّذها على عجل لكي يحتفظ بالفكرة التي تقدح في ذهنه ويدوّنها على هيأة Sketch أو Croquis ليعود إليها عند الحاجة لتنفيذها على سطح تصويري أو على هيأة عمل نحتي لا ينتمي، في الأعمّ الأغلب، إلى الأنماط السائدة، فثمة بصمة تميّز أعمال علاء بشير منذ ستة عقود ونصف العقد تقريبًا.
يستدعي هذا المعرض الذي أسماه الفنان “أفكار من طين النهرين” أن نعود إلى معرض سابق له يحمل عنوانًا محاذيًا لهذا المعنى وهو “أفكار من تراب” احتضنه مركز الفنون التشكيلية في بغداد سنة 1992م وقد ضمّ في حينه 135 تمثالاً نحتها من طين دجلة والفرات.
ولو تأملناها جيدًا لوجدنا فيها تأثير المئات من الجثث الممزقة والمعفّرة بالتراب التي رآها الفنان خلال حربيّ الخليج الأولى والثانية وقد ذكّرته تلك الجثث بعيونها المفتوحة “بالمنحوتات السومرية وأساطير الموت والحياة ومعجزة الخلق من تراب” وبعض هذه التماثيل والمنحوتات موجودة في هذا المعرض الذي يضم (بحسب الدليل) 21 سكيتشًا و30 منحوتة عادية و16 منحوتة ملونة لم يألفها الجمهور من قبل.
ما يميز هذه المنحوتات جميعها أنها تذكّرنا بالمنحوتات العراقية القديمة السومرية والبابلية والآشورية التي كانت تُعنى بموضوع الحياة والموت، وهي الثيمة الأساسية التي شغلت الفنان علاء بشير طوال حياته منذ الطفولة والصبا والشباب إلى سنوات النضج والحكمة، فهو يشبّه الحياة بالرحلة التي تنطلق من عالم مجهول وتنتهي إلى عالم غامض لا نعرف عنه شيئًا.
لا يمكن الإحاطة الشاملة بالأعمال الفنية لعلاء بشير ما لم يتعرّف المُشاهد الرموز والإشارات والمفاهيم الفكرية والجمالية التي يوظفها هذا الفنان الدؤوب في منجزه الإبداعي مثل الغراب والتفاحة والكرسي والأفعى وما إلى ذلك لأنه يسعى بالأساس إلى إثارة الأسئلة الفلسفية المؤرقة التي تُدين الرجل بوصفه (المجرم الأول) فقابيل هو الذي قتل هابيل وجاء الغراب ليرفع عن وجهه قناع الجريمة الذي ارتداه لبعض الوقت لكنه سرعان ما تكشّفت حقيقته وانبرت أمام البشرية جمعاء.
وإذا كان المتلقّي يفهم السكيتشات الـ21، ويستطيع التعاطي مع المنحوتات الـ30 العادية التي تُحيل إلى الفن العراقي القديم الذي يحتفي بالمضمون، فإنَّ المنحوتات الـ16 الملونة تحتاج إلى وقفة طويلة متأنية تكشف تقنيات هذا الفنان المبدع الذي يغوص في أعماق شخصياته النحتية ويحاور أفكارها ومشاعرها الإنسانية المُرهفة.