ملاك أشرف
ذهبت جائزة الترجمة الوطنيّة الأميركيّة في الشعر لهذا العام إلى ديوان {العتبة} للشاعرة المصرية إيمان مرسال، من ترجمة روبن كريسويل، أستاذ الأدب المقارن في جامعة ييل..قالَ المترجم الماهر روبن كريسويل: إن الشاعرة إيمان مرسال تجد صوتها ليسَ في الساحة العامة أو عند نقاط التفتيش، بل في عالم العلاقات والتعبيرات المشتركة الشائعة والتسلسلات الهرميّة، حيث إن الشكوك الدائمة تحرك عتبة الهويات الجماعيّة، التعبئات السياسيّة والعلاقات الأسرية، تقول في قصيدتها: “صرخَ أحد المثقفين الذين خدموا لفترة طويلة في صديقه/ عندما أتحدث عن الديمقراطيّة/ اصمتوا بحق الجحيم”.
عرّفتها بعض الصحف الإنگليزيّة بأنها الشاعرة العربيّة التي صاغت صوتًا شرسًا وحنونًا وذكيًا في الوقت نفسه، شاعرة لم يكن لديها ما يكفي من الوقت للترف والهدوء.
يجمع “العتبة” قصائد من المجموعات الشِّعريّة الأربع الأولى لمرسال: ممرّ مُعتم يصلح لتعلم الرقص 1995، المشي أطول فترة مُمكنة 1997، جغرافيا بديلة 2006، حتّى أتخلّى عن فكرة البيوت 2013.
في قصائد هذهِ المجموعات كشفت عن نفسها وعرّت “أناها” تمامًا، من المُؤكد أنها دفعت ثمن ذلكَ قبل أن يصلها ثمن المُكافأة العابرة، سريعة الزوال في عالمٍ عليل وخائن، إنهُ شيء لا ينبغي لنا أن نعتمدَ عليهِ كثيرًا أو نختبئ وراءه
دائمًا.
يمكننا القول إن الجائزة أخيرًا ذهبت إلى أصحابها الحقيقيين الذين يستحقونها حقًّا، لكن هذهِ أيضًا خيانة؛ لأننا لسنا مُعتادين على أن الأشياء الأصيلة والثمينة الّتي أُخذت عنوةً من الآخر يجب أن تُعادَ إلى شخصها المُقرّر منذُ البداية!
هذهِ التصرّفات لا توفر لنا الراحة الصافيّة، بل تجعلنا نشكك في رؤية العدالة، الأصالة والصدق ونعتبرها فخًّا، لكن الشكّ يكشف الحقائق والمُراوغات في النهاية، وهذا ما تريدهُ الشاعرة المُفكّرة قطعًا.
على مَن يقف خلف الجوائز أن يُسرعَ بتسليم الجائزة المُرادة لصاحبها الفعليّ، قبل أن يفكرَ الذين أمام الجوائز بأن أي إرادة خائبة أتت بهم إلى هُنا، على غرار ما قالتهُ مرسال في الماضيّ.
تعلّمت الشِّعر بنفسها، وهو ما يسمى بالتعليم الذاتيّ من خلال القراءة المُعمقة والتدريب على الكتابة المُرتبة، إذ هدف الشِّعر هو الوصول إلى الآخرين ومُلامسة قلوبهم، إذا لم تكن القصيدة ذات معنى بالنسبة لأيّ شخص سوى مؤلّفها، فلن يهتمَ بها أحد سوى مؤلّفها.
علّمت نفسها كتابة القصائد التي ترغب بقراءتها والتأمّل فيها وخلقت لنفسها شكلًا يُناسب شخصيتها وروحها، مُستعملةً لُغة واثقة، بارعة وإيقاعيّة، كأنّها رحلة على متن قارب رائع، يدفعنا نحوَ البرودة تارةً والاعتدال تارةً أُخرى. إنها لُغة تولد مشاعر مُختلفة في كُلّ قراءة تكتمل بعمقٍ وبطء، تستمد مُفرداتها وجملها من مصادر مُتنوّعة صغيرة وأحداث يوميّة عاديّة كاللوحات الفنيّة والأصوات المُتفاوتة على الطرقات الواسعة.
يُذكرني أسلوب مرسال في شِعرها بالشاعرة لويز غليك، من حيث العاطفة والنبرة والشفافيّة فضلًا عن السخريّة الضمنيّة والحيوية في بناء القصيدة، تتعامل كلتا الشاعرتين بصراحة مُطلقة مع المُعاناة، الاغتراب وتشابكات الحُبّ وازدواجيته.
لم تقف على أكتاف الشُّعراء المشهورين ولم تُقلد قصائدهم الصعبة والناجحة، كانت تعرف أن الشِّعر المُميز والقادر على التواصل مع الآخرين هو الشِّعر الذي يتمتع كاتبهُ بتجربةٍ خاصّة وفريدة من نوعها، حيث يقدّم شيئًا مُفيدًا وعصريًا للقارئ، في حين إن هُناك الكثير من الانحرافات، مثل: كسب العيش ورعاية المُقربين والانشغال بهم؛ ممّا تشتت انتباه الشاعر وتحزنه في أغلب الأحيان، كوّنها انحرافات أو مُلهيات تسرق ساعاته الأدبيّة المُفضلة وأوقاته الهادئة العزيزة.
إن قصائدها وكتاباتها ضروريّة لا ريب، لا نستطيع أن نتصوّرَ الأدب العربيّ من دونها؛ لذلك فهي ليست قصائد دخيلة وزخرفة إضافيّة في عالم الشِّعر والنثر كالكُرات المُلوّنة على أشجار عيد الميلاد المجيد.
أثبتت أنها شاعرة مُتبصّرة ورصينة لا تصلح لجميع القُرّاء، إنَّما للقارئ المثاليّ أو القارئ الناقد الّذي يميل إلى ثيمات مجموعاتها الشِّعريّة، والّذي يُحلل بإتقان مقاصدها الذاتيّة فقط..
عندما يفوز الشِّعر بجائزةٍ فهذا لا يعني أنهُ شِعرٌ مُهمٌّ وصالحٌ للقراءة أو أن لهُ كاتبًا عظيمًا إلّا أن الأمر يصبح على العكس حينما يتعلق بمرسال، ذات التركيبة الهشّة والكلمات المُؤثرة، لن يكونَ الانتصار مجانًا ومُفرحًا كُلّيًا بالنسبةِ إليها يومًا ما. رأت قيمًا تتكسر دون أن ترى قيمًا جديدة تحلّ محلها وشعرت بألم لا يمكن محوه بسهولةٍ بعد الآن، إن الألم الذي يمحوه فوز هو ألمٌ مُزيفٌ لا تنتفع منه الكتابة الشِّعريّة ولا تتشرّف بهِ الذاكرة العريقة أبدًا.
لا ترمّم الروح المُكسورة والمُغتربة بمُجرّد حدث كبير مُبهج وقع هُنا أو هُناك، ولا تهدأ أفكار المرء المُتضاربة في زمنٍ قصير، هذهِ الرتوش المُتأخرة لا جدوى منها في الحياة القاسية غير الرحيمة اليوم، كما أننا لا نستطيع أن نحمي الشاعر من نغمات الجوائز المُشوشة والمُربكة على الإطلاق.
مَن يؤمن بالأدب الفلسفيّ الجيّد ويستمرّ في تناولهِ ينتج عملًا قويًا وجديرًا بالثقة، هذا ما تعلمته- أنا- من إيمان مرسال وعزلتها المُثمرة على مرّ السنين بلا مُجاملات وجماليات جاهزة وكاذبة؛ لذا ننعم بطرح ثقافيّ مُستقلّ عن المُؤسسات الرسميّة وغير الرسميّة وبعيدًا عن الانتماءات المُخاتِلة الخانقة والمنصات المشبوهة التي
لا تشبهنا.
نحنُ هامشيون شئنا أم أبينا، وسواء ربحنا حفنة من الجوائز المُتحيزة أم لا، كما تشير مرسال دومًا، مع ذلك أرى أن الخلود سيكون لنا مهما طال الوقت، ثمّة كتابة تجسّد المعرفة والمعيشة الجارحة والمُعقّدة يصعب إخفاؤها إلى الأبد،” إن إغلاق باب ما خلفهم يظلّ حيًا في ذاكرتهم، يمارس ضغطًا ليفتح مُجدّدًا ويقضي حتمًا على الهجين ورائحته المُزعجة”.
في كتابة مشروعها الشِّعريّ حققت مرسال على أكمل وجه مقولة الشاعرة الأميركيّة إيميلي ديكنسون: ما أستطيع أن أفعله سأفعله، وما لا أستطيع يجب أن يظلَّ مخبوءًا في الإمكان.