فن النعي النسوي.. ماذا أيضاً؟

الصفحة الاخيرة 2023/12/03
...

محمد غازي الأخرس

رحمَ اللهُ المطربَ الخالد نسيم عودة، كم كان كريماً معي حين حقَّقَ أمنيتي ونعى بطريقة أمهاتنا وجداتنا في ذلك اليوم. تكسَّرَ صوته وهو يلخصُ كل أحزان الجنوب باكياً بلسان أم حسان التي لا تملك سوى ولدٍ وحيد: يمه محله الثلاثة من يهدون.. أخوة واحد وره واحد يطلعون.. اليعيل سطراته بالعيون.. الوحيد يفرح من يحجزون حسان يمه.
كنَّا أجرينا اللقاء الأخير مع نسيم، أنا ومقدمة برنامج (أبواب) إيمان علاء، عام ٢٠٠٨ أو ٢٠٠٩ ، في بيت فالح حسن، وقبل نهاية اللقاء، خطر لي أنْ أسأله عن تأثير أحزان الجنوبيات فيه، فقال إنَّ شقيقته الكبيرة كانت تنعى بشكلٍ مؤثر، فحسبت أنَّه قد تأثر بها. هنا طلبت منه أنْ يؤدي لنا شيئاً مما بقي في ذاكرته، فشرع ينعى بطور النعي النسوي رفقة كمنجة فالح حسن، بكيت ودمعت عينا إيمان التي كانت قد فقدت أخاها في تلك الفترة العصيبة.
تذكرت الحادثة وأنا ألحظ ازدحام التيك توك هذه الأيام بمؤدين شباب يوجعون قلوبنا بأداء النعاوي. فيديوهات كثيرة تنتشر بشكلٍ يوحي أنَّها باتت مطلوبة بشدة مؤخراً، وهو ما يشير إلى أنَّ فنَّ النعي ربما يمرُّ بفترة تحول لا بُدَّ من الوقوف عندها.
الأحرى أنَّ الشباب من ذوي الأصوات الرخيمة والحسِّ المرهفِ باتوا يؤدون الطور الحزين بالشعر المخصص له، وهذا يعني أنَّنا نشهدُ عملياً، ترحيل هذا الفن من مجاله الخاص بالنساء، حيث يؤدى في سياقٍ وظرفٍ محددين، إلى مجالِ تلقٍ مختلفٍ، مجال يتوجه فيه المؤدي إلى جمهورٍ واسعٍ، يرافقه عازف عود أو كمنجة. أمس مثلاً طالعني أحدهم وهو ينعى بشكلٍ شديدِ التأثير: طبلي الخبر وآنه عله ريجي.. وشكيت كلبي وعفت زيجي.. درب النجف مليت منه.. ياخذ الزينين من أهلنه، الخ، وقبله كنت سمعت كاظم مدلل وهو ينعى على العود بطريقة تبكي الحجر. ثم يوماً بعد يوم، اتسعت الظاهرة حتى أنَّنا صرنا نسمعُ شعرَ النعاوي المأثور بقالبٍ لحني كما في أغنية (اليوم لحد يحاجيني)، التي أداها ليث كمال وعصام اللامي وفهد النوري وسواهم.
إذنْ، كيف نفسر الظاهرة؟ ببساطة، الظاهرة تشير إلى فرضيَّة انحلال الفنون في بعضها البعض، أو تناسلها من بعضها الآخر. على مرّ العصور، كانت تولدُ أشكالٌ من الفنون، ثم تذوي وتموت، ثم تتحللُ لتتوزع عناصرها في فنونٍ جديدة. في عصرٍ ما، كان هناك فنُّ الملحمة، لكنَّ الملحمة هذه ماتت واختفت لتتطور منها فنونٌ سرديَّة مختلفة أشهرها الرواية. كذلك يقال أنَّه من المسرح الإغريقي ولد الشعر، في حين يرى آخرون أنَّ الشعر ولد من التعاويذ السحريَّة والرقى، مثل (أخذة كش) السومريَّة التي تعدُّ أول قصيدة حبٍ في التاريخ. لا بل أنَّ الشعر نفسه شهدَ سلسلة صراعات داخليَّة بين أشكاله وأنواعه، فاختفت (المواليا) ليولد (الزهيري)، أو انتصرت (الأبوذيَّه) على فني (المعنه) والـ(هات) اللذين اختفيا تقريباً. أين انتهى المطاف بفن المقامة، وأين ذهب فن التوقيعات، أو الحكاية الشعبيَّة؟ أين طور (الصويلحي) أو (النديم) أو (الجبهاني) أو (الزايري)، المنسوب للحاج زاير؟ ألا يوجد شيءٌ من كل هذه الفنون في فنونٍ ظهرت بعدها؟
من هنا يُخيّل إليَّ أننا نشهد ولادة فنٍ غنائي جديدٍ هو تطويرٌ لفن النعي النسوي، وولادة هذا الفن ربما تشهد سلسلة من التطورات مستقبلاً وصولاً لمرحلة الاكتمال.
ماذا عن النعي النسوي؟ هل سيحافظ على نفسه ويقاوم الزمن؟ هذا ما يتطلبُ وقفة أخرى قريبة.