عدنان حسين أحمد
لا تكمن أهمية الفيلم الوثائقي "غزَّة تكافح من أجل الحرية" للمخرجة الأمريكية آبي مارتن لأن السلطات الإسرائيلية منعت المخرجة من الدخول إلى قطاع غزَّة بحجة مواقفها "الدعائية"، المؤازرة للشعب الفلسطيني وإنما لتركيزها على خمسة محاور أساسية، وهي الفقر المُدقع لأبناء غزَّة بسبب الحصار والتجويع، والقتل المتعمّد للأطفال والمعاقين والصحفيين والمُسعفين وخاصة أولئك الذين اشتركو ا في "مسيرة العودة الكيرى" التي قُتل فيها أكثر من 200 مدني أعزل على يد القناصة الإسرائيليين منذ 30 مارس/آذار 2018.
يشتمل الفيلم على شخصيات كثيرة لكننا سنركز على خمسة منها فقط، فالجزء يشير إلى الكل ويوحي به من دون لبِس أو تعتيم. اختارت المخرجة مواطنًا فلسطينيًا بسيطًا كان يعمل مزارعًا في قرية صغيرة لكنه أُصيب في ساقه فأصبح عاطلاً عن العمل. وبما أنه ربّ أسرة تتألف من 16 فردًا، ويسكن في بيت صغير جدًا، فقد اضطر للعمل بجمع الحديد والبلاستيك والحجارة على عربة يجرها حمار ويبيعها للناس ليحصل على بضعة دولارات يسد بها رمق العائلة الكبيرة في ظل الحصار الدائم الذي يخضع له قطاع غزَّة. يتحدث هذا الرجل عن معاناته من انقطاع الكهرباء، وشح المياه الصالحة للشرب، وتفشي البطالة ومع ذلك فهو يحلم بأن يعلّم أطفاله في المدارس، ويوفر لهم عيشة كريمة لكن الأيام التي تأتي هي أسوأ من الأيام التي طواها في ماضية القريب.
وعلى الرغم من أنّ اتفاقيات جنيف تحرّم قتل المدنيين وتركز على الأطفال والمعاقين والصحفيين والمُسعفين على وجه التحديد، إلاّ أنّ القوات الأمنية الإسرائيلية تنتهك هذا الحق جهارًا نهارًا وأخذت تتلذذ بقتلهم أمام الكاميرات، وتصور عمليات القنص وتنشرها على وسائل التواصل الاجتماعي. وقد ركزت المخرجة على قنص أكثر من طفل وتصويره كنموذج على وحشية الجنود الإسرائيليين الذين قتلوا المئات من الأطفال بواسطة القناصين فقط. أما المعاقون والناس من ذوي الاحتياجات الخاصة، فهم محميون على وفق المادة 11 من اتفاقية جنيف لكن المخرجة آبي مارتن قدّمت لنا أدلة دامغة على خرق هذه الحماية حينما أرتنا أحد القناصين الإسرائيليين وهو يسدد على شخص معاق يجلس على كرسي متحرك ويصيبه في الصدر إصابة قاتلة. وثمة معاق آخر يتكئ على عكازين أصابه قناص خلف رأسه وأرداه قتيلاً في الحال. وفي ما يتعلق بالصحفيين المحميين في كل مكان باستثناء فلسطين فقد رأينا الصحفي عبدالله الشوربجي الذي تعرض لطلق ناري متفجرّ في قدمه رغم ارتدائه لدرع يحمل شارة الصحفيين التي لم تشفع له أما تغوّل القطعات الإسرائيلية المسعورة التي تنتهك حقوق الإنسان في أوقات الحرب والسلم على حد سواء. لم يسْلم المُسعِفون من طلقات القنّاصة الذين يقتلون مع سبق الترصد والإصرار، ويكفي أن نشير إلى قصة المُسعفة رزان النجار التي تطوعت لإنقاذ وإخلاء المصابين من سوح المظاهرات الاحتجاجية في "مسيرة العودة"، لكي تُوصل رسالتها إلى العالم وتقول إننا قادرون على أن نعمل كل شيء من دون سلاح. ورغم أنها كانت تتمترس خلف الروب الأبيض إلاّ أنّ القناص استهدفها بإصابة قاتلة ماتت على إثرها في المستشفى وأجهز على أحلامها الكبيرة في أن تنقذ المئات من المصابين الفلسطينيين الذين يتعرضون كل يوم إلى عقوبات جماعية، وقتل وحشي، وترحيل قسري ممنهج.
لا تكتفي آبي مارتن بالحديث عن الضحية وإنما تصور الجلاد أيضًا وترصد طريقة تفكيره وتعامله مع المواطنين الفلسطينيين المحشورين في سجن كبير اسمه "قطاع غزَّة". وهي تستشهد بـ "بن غوريون"، أول رئيس وزراء في إسرائيل الذي قال:"يجب أن نطرد العرب ونأخذ أماكنهم"، وتعرّج على ليفي إشكول الذي صرّح ذات مرة قائلاً:"إذا لم نعطهم كمية كافية من المياه، فلن يكون لديهم خيار لأن مزارعهم سوف تصفّر وتذبل". وبمقابل هذه التصريحات المسمومة تستدير المخرجة إلى الناشط والصحفي الفلسطيني أحمد أبو رتيمة الذي شاهد الطيور، وهي تعبر الحاجز الفاصل بين قطاع غزَّة وإسرائيل وتساءل بطريقة منطقية مفادها:"ماذا سيحدث إذا حاول آلاف الغزاويين أن يعبروا بسلام هذا الحاجز الذي يفصلهم عن أرض الأجداد؟" تخلص المخرجة إلى القول: "بأنّ من حق الشعب الفلسطيني أن يحرر أرضه من الاحتلال الإسرائيلي بكل الطرق المتاحة بما ذلك استعمال السلاح".
وفي الختام لا بد من الإشارة إلى أنّ آبي مارتن هي صحفية أمريكية من مواليد بليزانتون بكاليفورنيا 1984م. درست في جامعة سان دييغو وحصلت على شهادة في العلوم السياسية سنة 2010. أنجزت حتى الآن خمسة أفلام من بينها "الخيار لنا" و "العدو الأكبر للأرض"