{فتاة من إسرائيل}.. ثمرة التطبيع المرّة

ثقافة 2023/12/04
...

  رضا المحمداوي

لمْ يجد عبد الغني (محمود ياسين) استاذ مادة التأريخ المصري حرجاً في انهياله بالضرب على يوسف هارون (فاروق الفيشاوي) أستاذ علم الاجتماعي الإسرائيلي في جامعة تل أبيب، بعد أن فشل في محاولته الأخيرة لإنقاذ ابنه الشاب طارق (الممثل خالد النبوي) من تبعات علاقة مشبوهة عمل يوسف  وابنته ليزا (داليا حسين) على ترتيبها للإيقاع بطارق وترحيله من طابا إلى ميناء إيلات الإسرائيلي، هناك إلى أميركا حيث وعودهم له بالثراء وتحقيق الأحلام، لكن طارق يترك المركب في عرض البحر، ليعبر إلى شاطئ الأمان ويحتضن والديه وهما ينظران بريبة إلى ذلك اليهودي الخبيث.

هذه بعض تفاصيل المشهد الأخير لفيلم "فتاة من إسرائيل" لمخرجه إيهاب راضي، التي تلخص بمجملها قصته السينمائية المُعدة عن قصة بعنوان "الوداعة والرعب " للمؤلف: محمد المنسي قنديل، وَكَتَبَ السيناريو والحوار لها كل من رفيق الصبان وفاروق عبد الخالق بالاشتراك مع مصطفى محرم؛  وتقود في المحصلة النهائية إلى فكرته العامة المُعبّر عنها  بـ (التطبيع) هذا المصطلح بشكله السياسي الظاهري، وما يتضمنه من أبعاد ثقافية واجتماعية عميقة خطرة، والذي بات يمثل الواجهة الرئيسة في السياسة الخارجية الإسرائيلية تجاه الدول العربية، لا سيِّما بعد توقيع اتفاقيات السلام بين إسرائيل وبعض الدول العربية، ومن ثم إطلاق إسرائيل دعوتها الرامية إلى نسيان الماضي، والبدء في صفحة جديدة في العلاقة معها، متناسية حركة التأريخ وأحداثه ووعي الأمم والشعوب لحقائق ذلك التأريخ الراسخ، ومحاولة الأمم استنباط قيم المستقبل من خلال فهمها العميق لذلك التاريخ.
انشغل الفيلم بفضح فكرة (التطبيع) بوصفها موضوعة ثقافية بإطار اجتماعي، واهتم كذلك بإيجاد الصيغ السينمائية في التعبير عنها، والتصدي لها، والوقوف على الضد منها، وتفنيد جميع وجهات النظر الداعية لها، وجاءت بعض مفردات البناء الدرامي السينمائي غنيةً وذات اكتناز تعبيري ثر.
ومن هنا شكّلَ المشهد الاستهلالي للفيلم، الذي صوّر الجنود الإسرائيليين، وهم يطلقون النار على الجنود المصريين الأسرى، ومن ثم دفنهم في قبر جماعي لتبرز قيمة الشهيد- الرمز...  انطوىَ هذا المشهد على الفرضية الدرامية، التي بإثباتها أو نفيها يتحدد مصير الفيلم، بين المصداقية المقنعة، أو التكذيب السافر.
وستأتي وحدات البناء الأخرى لتضفي قوة وتماسكاً على بنية الفيلم السينمائية؛ بدءاً من اختيار وحدة المكان، وهي هنا "طابا" المدينة التي استعادتها مصر من إسرائيل، بعد، توقيعهما لمعاهدة السلام لتكون طابا أشبه بالثمرة المُرِّة، اذ يلتقي فيها طرفا معادلة (التطبيع): وفد سياحي مصري لزيارة المدينة، التي استرجعت من العدو التقليدي، وعادتْ إلى الوطن الام، ووفد سياحي إسرائيلي مُحمّل بكل ما هو حاقد وخبيث، لتخريب عقول الشباب، ومحاولة نسف جسور التواصل بين الأجيال. وبانتقاء ذكي وواضح له دلالاته الدرامية، تم اختيار عبد الغني أستاذ التأريخ، وهو والد الشهيد إيهاب ليكون في مقدمة الوفد السياحي المصري، وذلك لما ينطوي عليه هذا الاختيار العلمي من دلالة في التصدي لمفاهيم يهودية خاطئة. .
في حين وقع اختيار الفيلم على أستاذ علم الاجتماع في جامعة تل ابيب يوسف هارون، ليكون المدبر والمفكر الأوّل لعملية اختراق العقل التاريخي العربي، متمثلاً بعبد الغني وزوجته رتيبة (رغدة) وابنهما طارق الشاب المتطلع إلى الحياة في أميركا منساقاً وراء أوهامه.
يضع يوسف ابنته ليزا في طريق طارق، لإيهامه بقصة حب، ومن ثم محاولة التأثير على أسرته وتذويب خصاصهم الاجتماعية عن طريق المصاهرة، وأحسب أنَّ أداء الممثل خالد النبوي لدوري الأخوين الشهيد إيهاب وطارق الحالم، قد جاء توكيداً فنياً- إخراجيا على أنَّ كلا الأخوين عبارة عن صورتين لوجه واحد، وهذا ما حاول المخرج الإفصاح عنه في اللقطة التي تمسك فيها رتيبة رأس ابنها طارق لتريه وجهه في صورة أخيه الشهيد إيهاب.
هذا الجانب الأخلاقي الملتزم في عائلة عبد الغني، يقابله انحطاط أخلاقي في عائلة يوسف هارون، وباقي أفراد الوفد السياحي الإسرائيلي، حيث الغطرسة والجنس الرخيص وتعاطي المخدرات.
اعتمد المخرج إيهاب راضي العديد من الأساليب التعبيرية في ترجمة رؤيته الإخراجية، رغم شيوع الطابع الواقعي في معالجته للفيلم، وذلك كإجراء إخراجي منه في توكيد شخصيات عالمه الدرامي، منها على سبيل المثال استخدام الإضاءة المسرحية "مساقط البقع الضوئية "، المنفصلة في عزل بعض الشخصيات عن بعضها الآخر، كذلك استخدام بقع الدم المتدفقة من يدي يوسف هارون، وهو يغسلهما أثناء حواره مع عبد الغني في المغاسل، كصورة مجازية عن أيدي الإسرائيليين الملوثة بالدم العربي.
وهناك العديد من مثل هذه الاستخدامات لجأ اليها المخرج أثناء حوارات ومحاججات عبد الغني ويوسف عن التأريخ، اذ يتحول الاغتراب السيكولوجي إلى تباعد صوري تدريجي بينهما، لتنكشف الفجوة الهائلة بين أفكارهما.