عادل الصويري
بعد امتدادِ المأزقِ الوجوديِّ، كَسُلَّمٍ يُفضي إلى نهايات مغلقة ومفتوحة في ذات الوقت، وَتَشَجُّرِ العبثِ العنيدِ في غابةٍ من سوادٍ سوريالي؛ تبقى مشكلتنا أننا نقف بالمقلوب.
صراعنا بين الغموض والوضوح يجعلنا عاجزين عن النظر لشعاع بعيد اسمه المستقبل.
أسأل نفسي: هل التفكير في المستقبل يمثل ذكاءً؟
وهل الذين ابتكروا النظريات أذكياء؟
لقد أرهق المفكرون والفلاسفة أنفسهم، لكنهم لم يشهدوا بعد رحيلهم انهيار ما قدموه طيلة فترة مكوثهم في الخنادق المتنوعة.
هل قبَّلَ كارل ماركس حبيبته؟
هل استمتع آدم سميث بوقته مع الصغار داخل حديقة عامة؟
والأهم من كل ذلك، هل سأكون على درجة من الفظاظة حين أصف الفلاسفة والمفكرين بالأغبياء؟
دائماً ما أشعِلُ سيجارةَ الكلمات، بعود ثقاب من الصمت المتناثر على خرائط العدم، لحظةَ يهبطُ الليلُ بمنطاد البلادة، فتتأكد فرضية فيرناندو بيسوا في أن المأساة كل المأساة تتمثل بالفشل في إدراك أنفسنا بوصفنا مأساويين.
الليلُ طويل، نفد التبغُ فطارت الكتابة، طارت إلى لا أدري، ربما لأوطانٍ لا تسجن النخيلَ في صناديق البريد، أو للصباحات التي لا تمشط بالفجيعةِ عشبَ حدائقها، ربما طارت إلى حيث (عروة) القادم بصعلكة حداثية، تنأى بنا عن جيفة الماضي، وسفالة مضارع يجتهد في اغتصاب الشموعَ الباحثة عن (مَهْدِيِّها) المنفيِّ في غروب الخامس عشر من شعبان، بينما يرتل النهر ما تيسر من انكسار.
يبدو انني أيضاً دخلت خندق الهذيان، ربما هو خندق ضروري للهروب من القبح.
في غفلة من الطين، صرت سليل السيوف والرصاص، منذ أول لوح سومري ارتدتني قمصان تصوفت بالخيبة.
خرائطي تأكل الرماحُ خواصِرَها على موائد التاريخ، وحمائمي محضُ دمىً مصابة برتابة الريش.
لطالما وجدتني ممدداً في توابيت الموروث، تماثيلُ النصوصِ تحملني على أكتافها، أصرخ.. لا تأبه لصراخي، فأسيلُ على دفاترِ الأسف صدىً من سرديات اللاجدوى.
لابد من خندق للقلق، نحتاج للوهم فهو البديل المتوفر الوحيد.
يمثل القلقُ غريزَتَنا المُبهمة، وهي تدور مع عقارب الساعات المتواطئة مع اللاوقت.
الأمكنة العارية تغفو على كتف العتمة، وبيننا وبين الحلم مسافةٌ ملغومةٌ بالانتظار، ومع ذلك نجتهد في قطعها، رغم أن محاذيرَ كثيرةً تنهانا، فنتركُ جُدرانَها ونتكىءُ على طيوف لا تجيء.
الحلم باب ظامىء لكف تطرقهُ، نصيحُ به: أما اكتفيتَ من الغياب؟
نستغرقُ في الكأسِ عسى تأخذنا إليك، رشفةٌ أولى، ثانية، ها أنت أيها الحلم تتجلى.. نركضُ إليكَ في طريق عبَّدها السكرُ، فنراكَ استحلتَ شرطياً من ذات النصوص التي وجدتني ممدداً في توابيتها قبل قليل!
كم دارت ملامحي في محنة أوراقها الصفراء، والمتساقطة من شجر النبوءات، بينما تُطِلُّ الوجوه على النهارات المسافرة إلى السدى مقتفيةً فصولَ اكتمالِها.
ومع ذلك، قد تمنحنا الخنادق متسعاً للذهنية، ومساحة للتصالح تساعدنا على تقيؤ اللحظات المزعجة.
ولا يتصور أحد أن هذه العملية صعبة، بل على العكس، لكنها قد تبدو مستحيلة في حال استصعبنا إدخال أصابعنا في حلق اللحظة لاستفراغ عتمتها، فنتحرر كلياً من السهو القابع في خطواتنا.
ما زلت أحتاج الوحدة، العزلة تمنحني أجنحة تحلق بي في سماوات الوجد.
العزلة حرية بقضبان ملونة، وجدرانها ورق لتدوين الأماكن الرطبة بحكايات تنفلت من أزمنتها قالبة المعادلة بحيث يكون الزمنُ هامشاً ومتناً في نفس اللحظة.
في العزلة لن ينتابك شعور بالوحدة طالما أنت في سفر كونيٍّ مع المؤجل من الإجابات.
كأنك تلاحقُ خيوطاً لطائرات ورقية، وتنتهي إلى يقين عدم الإمساك بها.
تماماً كيقينك الذي يشبه العالقين بين بئر الذات وروضة الشكوك والأخطاء، وهم يجوسونَ اشتعالَ غموضهم كما فعل أبو العلاء المعري والحسين بن منصور الحلاج.