د.جواد الزيدي
ضمن الإصدارات الفنية المتواصلة لدار الأديب البغدادية في عمان صدر عنها مؤخراً كتاباً أنيقاً باللغتين العربية والانكليزية، يعنى بتجربة النحات الراحل (عيدان الشيخلي)، أشرف عليه (مصطفى العجيل)، وقام بكتابة مقدمته وتحرير نصوصه الناقد (صلاح عباس)، الذي أشار في المقدمة إلى ظروف هذا الإصدار والإعداد له.
والمشكلات التي تواجه هذه المحاولة في البحث عن مصدرية نصية تُعين الباحثين بتأطير تجربة (الشيخلي)، كونه فنانا عصاميا، اختار العمل بهدوء وصبر، بعيداً عن الأضواء الإعلامية.
وعلى الرغم من أهمية تجربته، إلا أنها مكثت في الظل ولم يضئ جزءٌ كبيرٌ منها.
ولذلك جاءت هذه المحاولة لترميم الجزء المسكوت عنه فيها، من خلال القراءات الجمالية التي قدمها عدد من النقاد العراقيين، بعد تأمين عدد كبير من أعماله احتفظ بها مقتنون ومحبون للفن التشكيلي.
فقد كتب (د.عاصم عبدالأمير) عن النحت العالق في العزلة، وربط ذلك بمشاغل جيل الستينيات التي كانت مناسبة لتحييد النزعة الوصفية في منجزهم الفني وتقديم أطروحات تنفتح على ضرورات الذات، انسجاماً مع توصلات الحداثة وانقلاب فكرة الأولوية في ما يخص ثنائية (الذات والموضوع)، وترجيح فكرة الذات على الموضوع، من خلال ما تجترحه الذات الخلاقة، عنواناً لجوهر اشتغالها الجمالي، وصولاً لتأسيس ما يدعوه (الأُصول الوطنية)، بمعنى الاشتغالات التي يكون بإمكانها خلق حداثة عراقية.
وإن ما يهم (الشيخلي) هو فتح المسالك لرؤية نحات يريد إحداث فروقٍ بنيوية في عوالم النحت، من خلال غزارة انتاجه وتنويعاته اللافتة على الخامات، التي جال بها محرراً رؤيته من الوصايا التي كانت الحداثة قد انتهت منها في ما سبق، ليحاول التوفيق بين نزعتين يتسم بهما شكله النحتي في آن واحد هما (التعبيرية والتجريدية) يقودان كتله المحررة من عوالقها الشيئية لصالح انزياحات بنائية تُبقي ما هو جوهري فيها، وتزيد رؤيته قرباً باتجاه أهدافه الجمالية التي تُزيح معها ما أمكن من عوارض موضوعية.
وأشار الراحل (د.عاصم فرمان) إلى علاقته ببغداد ومحلاتها القديمة، التي ولد فيها واستثماره الأقواس والمنحنيات في خطابه النحتي على مستوى الرؤية الفكرية أو التعدد التقني، الذي كان يلتقطه من معمارية تلك الأزقة، ومن ثم تأثيرات الفن العالمي، والانكليزي تحديداً على فنه وإفادته من أساتذته، الذين عمل معهم مساعداً أثناء دراسته، أو في ما بعد، ما منحه مهارات خاصة تقنية ومنهجية انعكست لاحقاً في منجزه.
وأثار (د.قيس عيسى) مسألة العودة إلى الجذور والاكتفاء المتقشف بالذاتي، بمعنى نزعته الذاتية في تصوير الواقعة المحلية، وتحويل المقدس في الفهم الشعبي إلى شكل فني يمتلك علاقته مع الإنسان، الذي ينحو باتجاه خلق بدائل بصرية لذلك المقدس، بوصفها وسائط بين البشر والقوى الغيبية، التي تمثلت بصور طوطمية في عصور زمنية سابقة، إذ يؤكد تداخل الاتجاهات في عمله النحتي، حيث يتوافر صدىً للتعبيرية والتجريدية والتكعيبية، بما يُؤمن حريته الخالصة في التعبير الداخلي عن الموضوعات الخارجية.
وفضلاً عن المقدمة التي ساقها الناقد (صلاح عباس)، فقد كتب عن نحت الوجوه الواجمة ودلالات الحزن المهيمن في أعماله النحتية، ومن خلال هذه الفترة الطويلة التي قضاها في ممارسة النحت فأنه أسهم بوضع أسس جديدة في النحت العراقي المعاصر، من خلال تحطيم قواعد الاشتغال النمطية والبحث الدؤوب عن بدائل المواد الخام، في محاولة منه لشد الانتباه إلى القيم الفنية والجمالية الكامنة في هذه المواد.
في حين يربط الناقد (جاسم عاصي) بين المساند الفكرية ومقتضيات تطور الشكل الفني وعنايته الكبيرة بالجسد الانثوي لاثبات الوجود بالتنوع، الذي يُظهره الجسد في انشطار المعاني ومعطاها المختلف بين (الاجتماعي، والفلسفي، والتاريخي)، ويمنح مثل هذا الأداء بناءً فنياً يمتزج فيه التلقائي والحسي مع بنية الفنان الفكرية، فهو منتج لا يعتمد العفوية ولا القسر المؤدلج، بل يعتمد مزيجاً من الأداء العام ضمن تشكيل ايقونة تتميز بخلاصة الرؤى المتمكنة والمبنية على ذات مدربة لوضع خلاصة منفتحة وقابلة للدراسة المتجددة.
وفي باب معادلة الوجود تبرز فعالية استكمال التعبير عن الجسد باتجاه المحيط الذي يحتويه، والمقصود هنا هو التوازن الموجب للواقع المادي والمعنوي.
فالوجود يحمل كفتين تشيران إلى طبيعة الصراع الدائر في الوجود.
ولعل أهم العلل التي يرتكبها الوجود بحق الجسد هو الانتهاك والمصادرة من خلال علامات، ومنها ميكانيكية النظرة وثباتها وتشوشها، التي تهدف الإلغاء غير المتحقق، والذي يمكن القوى الخفية من أداء فعلها.
وفي الجانب الانساني تحدث الناقد (مصطفى العجيل) عن مشروع رد الوفاء لجيل كامل استطاع تقديم ما يمكن تقديمه لخدمة التشكيل العراقي ومنهم (الشيخلي)، وإن هذا الكتاب يمثل مشروعا مؤجلا للفنان يحاول المسهمون فيه استعادة الفنان واضاءة فصول من تجربته، بعدما تم اقتناء مجموعة أعمال له لتكون معادلاً موضوعياً للنصوص النقدية، التي تم تدوينها في هذا الكتاب، معتقداً أن دورنا يكمن في حلقة الاشتباك الفني والثقافي، وإن الحياة بالإمكان اختصارها بكلمة وفاء ومحبة لأناس أفذاذ أفنوا أعمارهم من أجل تقديم خلاصات نقية لبلدهم وثقافتهم وتاريخهم المشرف.
وضمن هذه المجموعة المُبصرة لتجربة (الشيخلي) قدم المترجم والناقد (د.حسين علوان) رؤيته الخاصة لمنحوتاته، بوصفها خلقاً جديداً مُتجاوز بقيمه المتفردة، حيُث تم تصنيف منحوتات الشيخلي إلى صنفين: أولهما أعمال النحت المجسم الخالص، وثانيهما أعمال النحت التركيبي، وقد تم توظيف خامات متعددة فيها، وأن التركيز على تخلق الجمال الخالص في الأشكال المنحوتة يأخذ مداه في أعمال النحت المُجسم التي لا تغادر النزعة التجريدية المطلقة باختزالها الإنسيابي، سواء كانت على هيئة تماثيل كبيرة أو صغيرة، إلا أنها في المُجمل تتمثل فيها هيأة الجسم المُكور، أو الناقص.
وعلى وفق ما تقدم فإن سمات أعمال الراحل (الشيخلي)، هو قدرتها على التميز الأُسلوبي وثراء التنوع على مستوى الرؤى الفكرية والخامة المتنوعة والاتقان الاحترافي من أجل خلق جديد يكمن في القيمة الفنية المتجاوزة.