مثقفو الأفران

ثقافة 2023/12/06
...

أحمد عبد الحسين
منذ القرون الوسطى وحتى مجيء هتلر، صُنّعتْ في أوروبا صورة لليهوديّ نمطيّة لا تصلح لشيء قدر صلاحيتها لكراهيته واستئصاله من دون شعور بالذنب. وحشدتْ لتكوين هذه الصورة وإدامتها وتلقينها مفاهيمُ دينية كَنسية ورؤى علميّة، فقد كانت هناك بحوث جامعية تتقصى دونية العرق اليهوديّ، وأخرى طبقيّة بشقيها الاجتماعيّ والاقتصاديّ نفّرتْ الجميع من اليهودي القابع في غيتو كارهاً المجتمع، والمشارك مع ذلك بفاعلية في استثمار أمواله وابتزاز الناس باعتباره مرابياً.

أطنان من الكتب والأعمال الأدبية والفنيّة، ومثلها عظات كنسية وجهود منظمات دينية علنية وسريّة كانت الوقود الحقيقيّ لأفران هتلر، وقبلها أفران الإسكندر الثاني قيصر روسيا ابتداء من سنة 1881 واستمرت لأربعة أعوام متتالية بما سمّي تاريخياً “مذبحة وارسو”.

كلّ شيء كان مصمماً لقتل اليهود أولاً، ولإزالة الضمير أو الشعور بالذنب باعتباره عضواً فائضاً عن الحاجة، وكان التاريخ في طريقه لأن يُكتَب بتمامه ويختم عليه من دون أن يكون لليهودي صوت ناطق عنه، لكنْ فجأة ودون سابق إنذار حدثتْ المعجزة، وظهر العضو الضامر “الضمير” قوياً صلباً ليضع العالم كلّه في قفص اتهام ويخلق شعوراً عموميّاً بالذنب، إلى الحدّ الذي صار العالم بأكمله ذا ضمير “يهوديّ”.

في حوار مع الفيلسوف بول ريكور، نجد أنّ العالم واقفٌ في وضع اتهام أبديّ منذ أن أخمدتْ أفران هتلر، الجميع مذنب إلى أن يثبت براءته، لكنّ ريكور يحدد فئتين اثنتين سكتتا عن رؤية نيران الأفران، هما المؤسسة الدينية والمؤسسة الجامعية. كتب: “أين ومتى سُمع صوت الجامعة كمكوّن أساسيّ في المجتمع المدنيّ؟ لأن الجامعيين الألمان لم يبذلوا جهداً لإنقاذ اليهود”. ويفرّق ـ وهو محقّ في ذلك ـ بين الحرب والإبادة بقوله إن الفرق الحاسم بينهما هو قتل الإنسان بحسب ما يكونه لا بحسب ما يفعله، فابن المقاوم مثلاً لا يصبح مقاوماً تلقائياً، ولذا فهو لا يُقتل، لكن ابن اليهوديّ يهودي بالضرورة فيجب قتله.

أحبّ ريكور وأقرؤه باستمرار، وأنا اليوم أقرأ له “الانتقاد والاعتقاد”، وأمامي مباشرة شاشة تلفزيون “الجزيرة مباشر” وقد جعلتها صامتة وأشاهد المحرقة التي يقيمها اليهود لأبناء فلسطين، لم ينشئوا أفراناً فهم لا يحتاجون إليها، أعطتهم أميركا قنابل، كل واحدة منها تزن فرناً كاملاً “وزن الواحدة أكثر من طنين”، وهي كافية لصهر كلّ شيء، الدم واللحم والعظام وحجارة البيوت وحديد السيارات في خليط واحد أسود متجانس.

مرّتْ عقود طويلة كانت أميركا وأوروبا تصنّع فيها صورة للعربيّ، تقليدية ونمطية لا تصلح لشيء قدر صلاحيتها لقتل العربيّ أولاً، ولاستئصال هذا العضو الزائد المسمّى ضميراً من نفوس العالم. وهي صورة اشترك في صنعها دينٌ وفنّ “سينما تحديداً” وأدبٌ وصحافةٌ وجامعات ووسائل إعلام ووسائل تواصل، بحيث ظهر أن كلّ ما أنتج خلال القرن العشرين مصمّم لجعل قتل العربيّ يمرّ بأقلّ خسائر ضميرية ممكنة من دون أنْ يعقب ذلك شعور بالذنب.

إذا كان هناك مثقفٌ عربيّ يجلس هذه اللحظةَ في بغداد ويشاهد بقلب محترق ما يجري، وأراد أن يعيد مقولة ريكور ليضع العالم كلّه في وضعية اتهام من أجل أن يؤنب ضمير هذا العالم، فسوف تتلقفه أفواه مثقفة تحفظ ولا تفهم، وعقول لم تتعب من اجترار المكرر، وأفهام اعتادت الشائعات علفاً لها، لتقول له: أنت تؤمن بنظرية المؤامرة!.

وفي هذه الجملة السخيفة المضحكة ثلاث كلمات فقط “تؤمن بنظرية المؤامرة”، لكنّ فيها ثلاثة أخطاء جوهرية ضحكوا فيها على المثقفين “العميقين” ولحسوا عقولهم، فالمسألة لا تتعلق بالإيمان، لأن المؤامرة ليست عقيدة، وهي ليست نظريةً، بل هي فهم لحدث، والمؤامرة هي الاسم الآخر لتصنيع كل صورة نمطية يراد منها تأسيس فرن للبشر لا للصمّون!.