حينما يعلن الكاتب عجزه عن الكتابة

ثقافة 2023/12/06
...




البصرة: صفاء ذياب




يؤكّد الكثير من النقّاد على أنَّ الكاتب لديه كتاب أو كتابان في 

حياته الإبداعية، وما دونهما تكرارات ربّما تتفوق- نادراً- أو تكون بمستوى أقل، أو تساويهما في الإبداع.

غير أنَّ التساؤل الذي غالباً ما يؤرّق المبدعين، وهو ما الذي عليهم فعله ليكونوا متجدّدين مع الأجيال الجديدة، أو مواكبين لما يطرأ على الأدب والفن وغيرهما من تجارب مختلفة عن تجاربهم.

ومن ثمَّ هل هناك شيخوخة في الإبداع؟

أغلب الكُتّاب يصرّون على أن يستمروا في الكتابة حتّى وإن كرّروا أنفسهم بكتب عدّة، أو تنحدر نصوصهم لمستويات أقل بكثير من بداياتهم… فهل على الكاتب أن يبقى يؤلّف أبداً؟ وما الذي يمكن أن يوقف الكتّاب عن الكتابة؟



تكرار غير محسوس

الشاعر والمترجم العراقي هاتف جنابي يرى أنَّ هذا سؤال قديم متجدّد لا مفرَّ من مواجهته سواء على صعيد الكاتب ذاته أو خارجه. إذا افترضنا أنَّ هذا السؤال مؤرّق للكاتب الذي يطمح إلى إنجاز عمل ذي أهمية، وتحقيق رغبة، بل نزعة داخلية- وجودية، تتعلّق بالسقف الإبداعي المبتغى من قبله، فإنَّه سؤال غير بريء دائما خارج نطاقه. استناداً إلى حسن النوايا، المتلقّي يرصد، يتابع، ويلاحق الكاتب ويتوق إلى ما هو جديد ومثير، ولا يريد لكاتبه أن يحيد عن المستوى الذي جلب انتباهه من خلاله، بعد قراءة أحد أعماله مثلاً، حتَّى عدّه أحد كتّابه المفضّلين. وبغضِّ النظر عن حرص ودرجة طموح وطقوس الكتابة لدى هذا الكاتب أو ذاك، يبقى السؤال قائماً: هل الكاتب (شاعراً وناثراً) يكرر نفسه، وإذا كان الجواب بنعم، فلماذا لا يتوقف عن الكتابة احتراماً لنفسه؟ يرى قسم من الشعراء والكتاب والنقّاد أنَّ الكاتب يلمع في عمل أو اثنين والبقية عبارة عن نسج على منواليهما بطرق شتى، ولا ينقذ هذا الكاتب من براثن “خيبة المتلقي” أو “تنمّر الحاسدين والمبغضين” سوى سعيه الحثيث إلى عدم تكرار نفسه، بتفنّنه في عدم التكرار أو طمسه. وإلَّا فكيف يمكننا تفسير هذا الكم من الأوراق الممزّقة والمرمية إلى سلّة المهملات أسفل مكتب معظم كتّاب العالم المعروفين، من دون النظر إلى هذه الظاهرة بوصفها محاولة لعدم التكرار وكتابة ما هو رديء؟ ولعلَّ غابرييل غارثيا ماركيز خير مثال على ذلك. ولا ندري، ما الذي سنحصل عليه لو جمعنا تلك الأوراق المرمية؟ لو تابعنا دواوين قسم من الشعراء (بما فيهم كاتب هذه السطور)، وأخذنا مثال الشاعر المعروف تادؤوش روزيفيتش وكيف قام بمراجعة وتنقيح قصائده مراراً قبل إعادة طبعها ثانية وثالثة، بالحذف والإضافة، لأدركنا أنَّه لا يوجد كاتب حقيقي في العالم خارج وطأة الخوف من التكرار، وتدنّي مستواه الفني.

ولا يرى جنابي أنَّ “الإسهال” في الكتابة عادة مضرّة، تقلّل من فرص الوصول إلى الكتابة المتميزة. مقابل ذلك، “لا يمكنني عدّ نشر كتاب شعري أو نثري واحد طوال حياة الفرد (في عصرنا الراهن) سبباً لتسمية صاحبه كاتباً أو شاعراً. كلُّ كاتب يكرّر نفسه بهذا القدر أو ذاك، لكنَّ المتلقي لا يرى ذلك دائماً. مع ذلك، فكلُّ عمل لا يمكن، بالضرورة، أن يكون مطابقاً لما قبله. إنَّ تجربة ومهارة الكاتب لا تكمن، في مواصلة الكتابة بمستويات متقاربة من حيث الإبداع والأهمية فحسب، وإنما بجعل تكراره الذي لا مفرَّ منه، أحياناً، غير محسوس. 

بلاغة الصمت

ويؤكّد الشاعر والمترجم اللبناني محمد ناصر الدين، أنّه كما أنَّ الصمت جزءٌ من الموسيقى، وهو رديف الصوت وقرينه وأحياناً يبزّه في السيمفونية، مثلاً على الكاتب أحياناً ولاسيّما الشاعر أن يصمت ويجعل هذا الصمت في صلب عملية الخلق الشعرية، فلتكن فترة الصمت هذه بمثابة غوص وتأمّل في الرحلة الداخلية للشاعر التي ينبع منها الشاعر، مثل تلك التفاعلات في باطن الأرض، الصمت الذي يصقل الجرح الوجودي إذا سلّمنا بأنَّ الشعر “جرحٌ من جروح الغيب”. قال أدورنو مرّة “لا شعر بعد أوشفيتز”، لكن حتَّى في أوشفيتز كان ثمّة شعر، واليوم حين نشاهد ما فعله أبناء جلدته في غزّة قد يقول قائل فليخرس الشعراء، لكنَّ الشعر سيخرج من بين الأبنية المدمّرة ومن حاضنات الأطفال الخدّج. أقول طالما هناك وهجٌ في روح الشاعر يضيء له تلك الرحلة الأشبه برحلة الصوفيين “في الآفاق وفي أنفسهم” فليكتب. غداً سيسلبنا الروبوت الكثير من تجاربنا الإنسانية وينافسنا في الكثير من المواضع، لكنّه سيقف حائراً أمام شاعر وصف عيني حبيبته بعد كثير من الصمت والتأمّل بغابتي نخيل ساعة السحَر.

فعلُ الحياة

ويبيّن الناقد شريف حتاتة أنَّ الكتابة مشروع، أو هكذا ينبغي أن تكون، وإذا اكتمل مشروع كتابيٌّ ما، فإنَّ بعض الكُتَّاب يشعرون بأنهم أدّوا ما عليهم، وينبغي أن يتوقفوا، ولكنَّ بعض الكتَّاب قد يغيِّرون وِجهتهم في الكتابة؛ فالشعراء يتحوّلون مثلاً إلى الكتابة السردية والعكس، ومن هنا يمكن للكاتب أن يتجدّد بتجدّد المساحة التي صار يكتب فيها. ومع ذلك، فإنَّ إشكالاً آخر قد ينشأ من هذه الزاوية، لأنَّ “المشروع” قد لا يتجدّد بتجدّد الشكل الكتابي، فمن الممكن أن يعيد الكاتب نفسه وإن اختلفت الأشكال التي يكتبها. ولذا تبقى مسألة التوقُّف عن الكتابة وربطها بالمشروع رهينة إرادة الكاتب نفسه وصدقه مع ذاته وإخلاصه لمشروعه.

من منظور نقدي؛ قد يكون التوقّف عن الكتابة أفضل بكثير من أن يكتب الكاتب نصوصاً رديئة، أو لا تسير في الخط الذي سارت فيه نصوصه السابقة من الجودة والتميُّز، ولكنَّ هذا الرأي النقدي، أحسبه من الأنانية بمكان، لأنَّه لا يراعي حاجة الكاتب نفسه لأن يستمر، لأنَّنا ينبغي- في رأيي- أن نضع في الاعتبار أنَّ الكتابة فعل ضروري للكاتب، فحاجة أي كاتب لها هي كحاجته لضروريات الحياة؛ وهذا ربَّما كان سبباً رئيساً وراء استمرار كثير من الكتّاب حتَّى لو كرّروا ما كتبوه من قبل. الكتابة قد تكون مرفأه الذي لا يعرف غيره، وذاكرته التي يستأنس بها، وفعلاً للمقاومة لا يجيد غيره، ولعبته التي تغذّي روحه وبدنه في آن.. والدليل الوحيد على أنَّه على قيد الحياة؛ ولذا فالمطالبة بأن يتوقف إذا كانت نصوصه لا تلبي المتوقَّع منه، هو أمر من الظلم والأنانية بمكان، وأنَّ الاستمرار يظلُّ قرار الكاتب واختياره وحده، طالما أنَّ كتابته تبرهن كلّ يوم على صدقه ودأبه وإخلاصه، بصرف النظر عن المتوقَّع منها على صعيد القيمة الجمالية.

 دائرة النار

هذا السؤال، يوجهه الروائي العراقي صلاح صلاح لنفسه، متسائلاً: متى يحين الوقت؟ “أنا اعرف أنَّ لكلِّ شيء تحت السماء وقت، للكتابة وقت، للقراءة وقت، للحياة وقت، للمشاريع العظيمة أو البسيطة وقت أيضاً، لكنَّ سؤال الكتابة يكاد يكون مؤلماً”.

في إحدى المرّات وجّه إليَّ سؤال من طرف كاتبة، عن الأمر، فوجئت، في الحقيقة شعرت بالرعب، قالت لي إنَّه سيحين ذلك الوقت حتماً، الآن أو بعد الآن. عندما عدت إلى المنزل وإلى غرفة الكتابة تحديداً بقي هذا السؤال عالقاً في الذهن، تأمّلت المكان، اللوحات، الكتب، تأملت جهاز الحاسب والبرامج التي استخدمها في الكتابة، هل سينتهي هذا كلّه فعلاً.

في تلك الفترة- عندما بلغت الستّين- شعرت، وهذا حقيقة أنَّ وقت التوقّف قد صار قريباً، لكن لديَّ الكثير من المشاريع، هكذا كنت أفكّر ثمَّ هناك رسائل القراء تطالبك بالكتابة وأسئلة توجّه لك في كلِّ لقاء عن الجديد. تشعر أنَّك قد قطعت بعدم الكتابة- عن عالم الأحلام- من سيكتب كوابيسك، من سيكتب عن الشخصيات التي تجول في عقلك الباطن وتصرخ- في الأحلام- كنت مشوّشاً وقلقاً، لكنّني أعرف أنَّ وقت التوقّف قد اقترب.

عليك أن تدرّب نفسك، بأن تتابع الإصدارات الجديدة، عليك العزلة التي فكّرت فيها بامتياز الرحيل. المشاريع الجديدة ربَّما تبدو مجرّد أحلام فقط، لأنَّه يجب عليك التوقف، فما كنت تنجزه في عامين يحتاج الآن إلى خمسة اعوام. ثمَّ عليك أن تفكر بالجديد طبعاً، أن تخرج من دائرة النار التي كتبت فيها مشروعك كلّه والمشروع الجديد يتطلّب قراءات جديدة ورؤى وأحلام جديدة.

كلُّ روائي لديه مشروعه، إذا اكتمل تصبح الإضافات غير مجدية ولا تشكّل رصيداً، البعض يخاف من النضوب. عندما تشعر بالنضوب فإنَّ هذا يعني اكتمال مشروعك الروائي وعليك الخروج من دائرة النار وفي النهاية أنت بحاجة إلى الاسترخاء.

أكذوبة الإلهام

ويشير الكاتب المغربي أحمد بنميمون أنَّ للكتابة دواعيها المختلفة، ولا يملك الكتّاب بدوافع داخلية أن يتوقّفوا عنها متى ما شاؤوا أو إذا ألزمتهم ضرورة ما. فالكتابة الأدبية، إبداعاً كانت أم نقداً وتنظيراً، لها بالطبع ميكانيزماتها الخاصة، والكاتب الحق لا يملك أن يتوقّف عن ممارسته الإبداعية أو النقدية، وأتذكّر هنا ما قاله (خورخي لويس بورخيس) عن أنَّنا (نكتب لأنَّنا ببساطة نقرأ) فكأنَّ علاقة القراءة بالكتابة، هي بمثابة التغذية للجسد البشري، أو أيّ جسد حيٍّ، لذلك يرتقي مستوى المكتوب بمقدار ما يرتقي مستوى مقروء الكاتب، ويهزل، بل وحتى يرذل مستواه بحسب نوعية ما يقرأ، هذا مع تأثّر إقبال الكاتب على الكتابة بمحفزات خاصة وعامة، فشعوره بأن يكون هناك من يقرؤه يضاعف من إقباله على الانشغال بإبداعه تجويداً وتحسيناً.

ولكنَّ الأمر يدعو إلى اجتهاد مضاعف، بالنسبة للكتابة النقدية، فقد يعتمد كثير من الأدباء المبدعون، على ما يؤمنون به من معتقدات مثل الإلهام التي دلّت موقف كثيرين أنَّها معتقدات خاطئة، فلا إلهام هناك وإنّما يكون التفوّق نتاجَ عمل مضنِّ، فمن يعمل أكثر ينتج أحسن، ولنا أن نطبّق هذا على الكتابة بنوعيها. والأمر نفسه حتّى في الرياضات البدنية جميعاً، فمن يبذل مجهوداً أكبر في التدريب هو من نراه يرقى للتكريم على منصّات التتويج.

أمَّا متى يمكن أن يتوقف الكاتب حتّى لا يكون مصيره ألاَّ يقدّم إلاَّ الأرذل والمتخلّف من الإنتاج، فهذا الأمر متعلّق بالكتابة الوظيفية التي بيّنتُ أنَّها تقوى وتضعف بحسب إقبال الكاتب على القراءة أو بعده عنها.

القراءة المنتجة

وبحسب الناقدة المصرية الدكتورة مروة مختار فالقراءة فعل منتج ومثير للأسئلة التي تحتاج إلى أجوبة تقنعنا وتفتح أفاقاً أخرى للتفكير، هنا تأتي مهمّة البحث والكتابة والإبداع لأنَّ القراءة الواعية محرّضة عليهم. بعبارة أخرى الكتابة وليدة القراءة المتجدّدة المنتظمة ومعها يختلف وعينا من كتاب لآخر لأنَّها فعل دينامي خلَّاق.

أمَّا تكرار المبدع أو الباحث لنفسه يعنى أنَّه توقّف عن فعل القراءة أو يقرأ بعقل مؤدلج يسقطه على ما يقرأ فتنتج عملية التكرار لأنَّ وعيه توقّف عند مرحلة بعينها. ومن ثمَّ سيكون الكاتب حيَّاً إذا استمرَّ في فعل القراءة، قراءة ما يختلف مع قناعاته ويغيّرها ويطوّرها أو يصحّحها أو ينمّيها بشكل عام إذا اتفقت معه، وبالتالي فإنَّ تكرار نفسك في بحث أو مقالة يعقبها تراجع إلى الخلف، وهذا يشي بأنَّك نسيت دينامية البحث النابعة من اختلاف النصوص التي تعمل عليها وأهملت دينامية وعيك المتغير بصفة شبه يومية.