كيفَ يكتبُ الشاعرُ الإسرائيليُّ قصيدته؟

ثقافة 2023/12/06
...

عادل الصويري


لنفترض جدلاً، وهو افتراضٌ غير واقعيّ، أنَّ الشاعر الإسرائيلي الحالي يشعر بكذبة الانتماء إلى وطنٍ هو أعلمُ من غيره أنَّهُ موهوم، أو مُتَخَيّل إذا أردنا التخفف. لو شعر فعلاً بهذا الوهم؛ كيف ستسقط عليه اللحظة التي يكتب فيها قصيدةً يريد لها أن تبثُّ الحياة في جسد الوطن الوهم؟

هل تسقطُ عليه هذه اللحظة كما تسقط على أقرانه في أماكن أخرى من العالم ؟ أم انه يصنعها كما يصنعها أقرانُه في أماكن أخرى من العالم، فينتمي للجدل الفارغ والساذج، والقائم على سؤال: هل القصيدة صناعةٌ أم إلهام؟


لنفترض أنه من شعراء الكلاسيكية ، المنتمين للقصيدة الخطابية والتعبوية، والتي تلهب الجمهور، وتزيد من حماسة المتلقي، كيف سيكون إعجابه الشعريُّ برئيسه النتن ياهو، العاجز عن تحقيق أي تقدم، وفق كل البديهيات العسكرية؟

ولو قلنا إنه شاعر ينتمي لتيارات الحداثة وما بعدها، وإنه يؤمن بأنَّ الشعرَ رؤيةٌ، والحداثةَ موقفٌ متقدمٌ من الحياة؛ ما هي الرؤية التي ستنقدحُ في رأسه حين يرى دبابات جيشه الذي تقولُ البروباغندا إنه “أقوى جيوش العالم” تُحاصرُ غرفةً للأطفالِ الخُدَّجِ في مستشفى مدني تحوَّلَ إلى رُكام ؟

ربما تتعطل الرؤيةُ، أو لا تأتي أصلاً، فيذهب لشرب القهوة، ويتابع النشرات الخبرية الضاجَّة بأخبار الاحتجاجات التي اجتاحت البلدان العالمية الحقيقية، والمنددة بما يقوم به جيش وطنه الوهم، فيرتفع منسوب الاكتئاب عنده، بعد أن يشعر أنه والموجودين في هذه الخريطة الموهومة منبوذون غير مرغوب بهم إنسانياً، فيطفىءُ التلفاز، ثم يسأل نفسه : كيف تُكتب القصيدة الحياة في رقعة جغرافية انعدم الحوار كلياً بين ما يُفترض أنها مكوِّنات اجتماعية تعيشُ عليها، وهي في الحقيقة خليط غير متجانس، فضلاً عن الحوار مع العالم؟ ربما يعود إلى الجدل الذي أحدثه (نتان زاخ) أبرز شعراء اليسار في إسرائيل، والذي لم يتردد في إعلان فاشية إسرائيل، بل ذهب أكثر للتصريح قبل سنوات من رحيله أنَّ الصواريخ التي تنطلق من غزة باتجاه إسرائيل، إنما هي صواريخ مقاومة مشروعة، معتبراً أنَّ الصهيونية تمثل المنابع الأولى للتطرف، وأنه نادم على قدومه من بلاد النازية، ليجدَ نفسه مستقراً في الفاشية، وأنَّ الوضع في إسرائيل يشبه الأيام الأخيرة للإمبراطورية الرومانية. فما كان من الموثق “الرسمي” ممثلاً بوزيرة الثقافة في وقتها المطالبة بإبعاد قصائده عن المناهج الدراسية؛ لأنها لا تريد للتلاميذ دراسة قصائد شاعر يتحدث بهذه الطريقة التي أربكت الجميع.

ما الذي سيبقى للشاعر الإسرائيلي الحالي، حين يستحضر هذه المواقف من أبرز الشعراء الحاصلين على جائزة إسرائيل للشعر عام 1995، وهو يعرّي الواقع المُعرّى أصلاً، بعد أن تخلَّى عن الكبرياء الصهيوني، والخيلاء غير الواقعي؟

القصيدة اليوم عند الشاعر الإسرائيلي قلق غير إيجابي، وغير منتج، وتبعث على الضيق والتشويش. فالقصيدة تشترط الحياة، ولا حياة على أرض كل شيء فيها خاضع لاشتراطات دينية متطرفة، مغلّفة بإيديولوجية تتغذى على الوحشية، والدموية، والتكبّر على سائر البشرية . إنها اشتراطات تُزق زقاً وغصباً، وعلى الجميع تقبلها والتماهي معها، وبذلك تكون الفكرة البديلة هي فكرة الرحيل والهجرة، مقتنعاً بقول (نتان زاخ) : “من الممكن أن تتحدث العبرية في مكان آخر”.

  بذلك يكون الشاعر قد تشبَّعَ كُلِّيّاً بحقيقة الصدمتين: التاريخية والأخلاقية، بعد تلاشي البهجة المؤقتة المتمثلة بتطبيع بعض البلدان العربية مع وطنه المُتوّهَّم، خصوصاً بعد أن أدركت تلك البلدان حقيقةَ المأزق الذي وقعت فيه جرّاء الاستعجال التطبيعي. والصدمتان: التاريخية والأخلاقية، تكفيان لارتفاع ضغط الدم، ومنسوب السُكّري، والسُكّر التراكمي، لكنهما غير كافيتين فعلاً لإنجاز قصيدة.