أربعة كائنات رقيقة وأنياب الوحش في غزّة

قضايا عربية ودولية 2023/12/06
...

• مريام بيرغر وإيفان هل وحازم بعلوشه

• ترجمة: أنيس الصفار 


كان الممرض في المستشفى المحاصر مكلفاً برعاية خمسة أطفال رضّع يعانون وضعاً صحياً حرجاً، خدّج وُلدوا قبل الأوان .. لم يكن أحد يعلم من هم أهاليهم أو يعرف عن مستقرهم شيئاً بعد شهر من الحرب والقصف والتهجير، لكنَّ الممرض في ذلك اليوم وجد نفسه فجأة إزاء معضلة اتخاذ أصعب قرار في حياته.

حدث ذلك إبان ذروة الهجوم الإسرائيلي على شمال غزّة في الشهر الماضي، وكان مستشفى النصر للأطفال واقعاً ضمن منطقة الحرب. في اليوم السابق كانت الغارات الجوية قد قطعت إمدادات الأوكسجين عن تلك المنشأة في مدينة غزّة، ثم طوّقت الدبابات الإسرائيلية مجمع المستشفى وباشر الجيش الإسرائيلي توجيه نداءات ورسائل نصية إلى الأطباء تحثهم على مغادرة المستشفى. بيد أنَّ سيارات الإسعاف لم تتمكن من الوصول بأمان إلى مستشفى النصر لنقل الجرحى، لذا رفض الأطباء المغادرة بدون مرضاهم.

كان الخدّج الخمسة معرضين للخطر بشكل خاص، لأنهم يحتاجون إلى الأوكسجين وإلى أخذ علاجات طبية على فترات منتظمة. لم تكن هناك أجهزة تنفس نقّالة أو حاضنات تسمح بنقلهم من المستشفى، وبدون أجهزة دعم الحياة تلك خشي الممرض أنهم لن يستطيعوا البقاء على قيد الحياة في حالة إخلائهم.

بعد ذلك وجّه الجيش الإسرائيلي إنذاراً نهائياً، كما يقول بكر قاعود مدير مستشفى النصر في حديث مع صحيفة واشنطن بوست: غادروا المستشفى وإلا تعرضتم للقصف بالقنابل. في غضون ذلك أكد مسؤول إسرائيلي أنَّ سيارات الإسعاف سوف ترسل لترتيب نقل الراقدين في المستشفى.

عندئذ لم يعد أمام الممرض، وهو فلسطيني يعمل مع منظمة أطباء بلا حدود، أي خيار آخر. أخذ يقيم وضع الأطفال الذين بعهدته ثم التقط أوفرهم عافية، والذي قدّر أنَّ بوسعه تحمل الانقطاع المؤقت في إمدادات الأوكسجين. أما الأربعة الآخرون فقد تركهم كارهاً في أماكنهم موصولين بأجهزة التنفس ثم غادر مع زوجته وأطفاله والوليد الوحيد متوجهين جنوباً.

يقول الممرض، الذي تحدث مشترطاً عدم ذكر اسمه حفاظاً على الخصوصية: "شعرت وكأنني تركت أطفالي ورائي. لو كانت لدينا القدرة على أخذهم معنا لفعلنا، ولكنهم كانوا سيموتون إذا ما فصلنا عنهم الأوكسجين."

بعد أسبوعين من ذلك حدث توقف في العمليات العدائية أتاح لصحفي من غزة أن يغامر بالدخول إلى المستشفى. وفي وحدة العناية المركزة بقسم حديثي الولادة وقع محمد بعلوشه على اكتشاف مروّع. يقول بعلوشه إنه وجد جثثاً متحللة لأربعة أطفال تفترسها الديدان، مسودّة بفعل التعفن وقد نهشتها الكلاب السائبة. قام بتصوير ما رآه على شريط فيديو ثم غادر المكان. 

يقول بعلوشه: "لقد كان مشهداً فظيعاً ومروعاً."

هذا الكشف الصادم فيه تذكير بالكلفة المخيفة التي تنزلها الحرب الإسرائيلية بالمدنيين من أجل القضاء على حماس، فهي حملة يقتل فيها الآلاف دون أن تستثني شيئاً أو أحداً.. ولا حتى المستشفيات والأطفال. 

تفجرت العمليات العدائية الحالية في 7 تشرين الأول عندما تدفق مقاتلو حماس ومتحالفون معهم من غزة لمهاجمة التجمعات الإسرائيلية القريبة من القطاع فأسفر الأمر عن مقتل نحو 1200 إسرائيلي واحتجاز أكثر من 240 آخرين. ردّت إسرائيل بفرض حصار كامل على القطاع وغارات جوية وعمليات برية أسفرت عن مقتل أكثر من 15200 فلسطيني وفقاً لوزارة الصحة في غزة، ومن بين هؤلاء آلاف الأطفال.

كانت إسرائيل تتهم حماس منذ وقت طويل بأنها تخفي مراكز للقيادة والسيطرة داخل المستشفيات، وقد أيّدت إدارة بايدن هذا الادعاء بينما نفته حماس والكوادر الطبية في غزة. رغم ذلك جعلت القيادات الإسرائيلية من البنى التحتية للنظام الصحي في القطاع بؤرة وجهت إليها حملتها العسكرية. وبعد شهر من الحرب شمل الأمر مستشفى النصر.

كان اليوم هو 10 تشرين الثاني عندما أبلغت القوات الإسرائيلية كوادر مستشفى النصر بمغادرة المكان، كما يقول بكر قاعود مدير المستشفى، الذي كتب إلى صحيفة "واشنطن بوست" رسالة على تطبيق واتسآب جاء فيها: "أرسلوا إلينا خارطة تحدد ممراً آمناً وأعطونا نصف ساعة للمغادرة. بخلاف ذلك قالوا إنهم سوف يقصفون المستشفى."

يبدو أيضاً أنَّ أحد مسؤولي مركز الرنتيسي لسرطان الأطفال المجاور لمستشفى النصر قد تلقى تأكيداً بأنَّ سيارات الإسعاف سوف تأتي لنقل المرضى من كلا المنشأتين. وفي محادثة هاتفية مع وحدة "تنسيق الفعاليات الحكومية في المناطق"، وهو فرع تابع لوزارة الدفاع الإسرائيلية، وجّه مسؤول مستشفى الرنتيسي طلباً بإرسال سيارات الإسعاف. وفي تسجيل للمكالمة الهاتفية نشرته القوات الإسرائيلية يظهر رد مسؤول كبير في وحدة تنسيق الفعاليات وهو يجيب باللغة العربية قائلاً: "لا مشكلة في ذلك."

أخبر ضابط وحدة "تنسيق الفعاليات الحكومية" مسؤول مركز الرنتيسي بأنه سوف يتدبر مسألة إرسال سيارات الإسعاف، ثم أعطاه المسار الدقيق الذي يتعين على الطاقم الطبي سلوكه عند الخروج من المجمّع. 

بعدئذ أعاد مسؤول مركز الرنتيسي تذكير ضابط وحدة التنسيق بأنَّ الكوادر الطبية في مستشفى النصر المجاور سوف تغادر أيضاً، فتلقى منه رداً يؤكد تسلمه التذكير.

يقول قاعود إنَّ تنسيقاً قد جرى أيضاً مع الصليب الأحمر والجيش الإسرائيلي يشدّد على أنَّ الكوادر الطبية سوف تغادر وأنَّ هناك حالات يجب إخلاؤها في وقت لاحق إلى مستشفى آخر آمن.

بيد أنَّ "شاني ساسون"، المتحدثة باسم وحدة "تنسيق الفعاليات الحكومية"، أخبرت صحيفة واشنطن بوست بأنَّ القوات الإسرائيلية لم تبلغ كوادر مستشفى النصر بضرورة إخلاء المستشفى ولا نفذت أي عمليات بداخلها، وامتنعت عن الرد بشأن ما اذا كانت وحدة تنسيق الفعاليات الحكومية أو الجيش الإسرائيلي قد تلقيا معلومات تتعلق بالأطفال أو ضرورة القيام بأي إجراء للعناية بهم.

كذلك تقول "ساره ديفيز"، المتحدثة باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر في القدس، إنَّ الوكالة لم تعطِ أي ضمانات كما أنها لم تكن تستطيع الوصول إلى المستشفى بأمان.

كانت عملية الإخلاء مؤلمة، ولم يكن هناك من سبيل للاتصال بأسر الأطفال، كما يقول الممرض، لعدم توفر معلومات عنهم، كما كانت الاتصالات مقطوعة في معظم أنحاء غزة. ما استنتجه حينها هو أنَّ أهالي الأطفال كانوا من النازحين وأنهم يعلمون بوجود أطفالهم في المستشفى ولم يخطر ببالهم أنَّ الاحتلال سوف يقصف المستشفى أو يغير عليه. يقول الممرض: "كانوا يحسبون أنهم تركوا أطفالهم في مكان آمن."

عندما حان وقت المغادرة حمل الممرض أقوى الأطفال بنية وتحقق من أنَّ أجهزة التنفس لدى الأطفال الآخرين تعمل حسب الأصول ثم خرج وهو لا يزال مرتدياً زي الممرض وسار بعائلته خارجاً من المستشفى ليبدأ رحلة طولها 30 كيلومتراً تقريباً معظمها سيراً على الأقدام جنوباً إلى خان يونس.

في الطريق صادف الممرض سيارة إسعاف أخذت الطفل الذي بين ذراعيه إلى مستشفى الشفاء، وهو أكبر مستشفيات غزة، ولم يعلم أنَّ هذه المنشأة لن تلبث أن تستهدفها القوات الإسرائيلية هي الأخرى بعد أيام. في نهاية المطاف قامت منظمة الصحة العالمية بإخلاء 31 طفلاً من الخدج من مستشفى الشفاء، وفي غضون ذلك كان آخرون عديدون غيرهم قد فارقوا الحياة.

في 24 تشرين الثاني، وبعد ما يقارب سبعة أسابيع من المعارك، بدأت إسرائيل وحماس هدنة توقف فيها القتال لمدة أسبوع لتبادل الأسرى والسماح بدخول مزيد من المساعدات إلى غزة.

استغل بعلوشه، وهو صحفي يعمل في قناة المشهد التي مقرها دبي، فرصة الهدوء النسبي وغامر بدخول مدينة غزة لإعداد تقرير عن الجثث المتروكة هناك. عثر على جثتين في شارع نبيل طموس، الأولى لرجل والثانية لامرأة، وكان أحد ما قد غطى الجثتين بـ(بطانية).

يقول بعلوشه: "حدثني الناس بأنَّ الواقعة الأقسى موجودة هناك في مستشفى النصر. قالوا لي إنَّ أطفالاً خدجاً قد تُركوا لشأنهم في وحدة العناية المركزة وكان من المفترض أن تأتيهم النجدة، لكن لم يأت أحد لإخراجهم وسط اشتداد القتال."

خلال فترة هدوء المعارك لبثت القوات الإسرائيلية على مقربة من المستشفى قاطعة بذلك على المدنيين سبيل الدخول إليها. لكن بعلوشه لم يرتدع بل راح يقفز من جدار إلى جدار بين المباني المدمرة إلى أن وصل إلى المجمع الطبي. يقول إنه بمجرد اقترابه من وحدة العناية المركزة لحديثي الولادة بدأت تصل إليه رائحة كريهة، فأدار الكاميرا.

عندما بثت قناة المشهد التقرير على الهواء شوشت صور البقايا البشرية. لكنَّ القناة سلمت صحيفة "واشنطن بوست" نسخة غير متلاعب بها من شريط الفيديو، وقد تحققت الصحيفة بدورها من أنَّ التسجيل تم فعلاً داخل وحدة العناية المركزة للأطفال في مستشفى النصر من خلال المقارنة مع صور ملتقطة داخل المنشأة قبل الحرب.

كانت بقايا الرفات، التي لم تعد تشبه صور أجسام بشرية، لا تزال موصولة بأجهزة التنفس. بدت مجرد أكوام من لحم متفسخ وعظام ناتئة وأعضاء لم يعد من السهل تمييزها. وفي منطقة الوسط من كل جثة كانت لا تزال هناك بقايا حفاضات ملفوفة متسخة.

سجل بعلوشه وصفاً للمشهد على الكاميرا ثم أسرع بمغادرة المكان. قال الممرض بعد اطلاعه على الفيديو إنَّ الجثث باقية في أماكنها، حيث ترك هو الأطفال، ولكن لم يأت أحد إليهم لانتشالهم.

يقول قاعود مدير مستشفى النصر إنَّ الجيش الإسرائيلي قد أبلغ بوجود حالات داخل المستشفى، لكنه أصر على الإخلاء رغم ذلك، على حد تعبيره. أما ديفيز المتحدثة باسم الصليب الأحمر فتقول إنَّ المنظمة تلقت طلبات عديدة لإخلاء المستشفيات في شمال غزة، لكنها لم تسهم بأي عمليات من هذا النوع نظراً للوضع الأمني، كما أنَّ فرق الإغاثة لم تتعهد بالقيام بذلك، وفقاً لادعائها.

لم يحضر أحد حتى الآن ليطالب بالجثث، ويقول الممرض إنَّ ما من إشارة تدل على أنَّ أهاليهم قد علموا بأنَّ أطفالهم توفوا. يقول إنَّ هذه الأحداث سوف تبقى تلاحقه، ويعتقد أنه يحتاج إلى علاج نفسي. 

يتساءل الممرض عن ذنب أولئك الأطفال.. هل كانوا مقاتلين؟ هل كانوا يحملون أسلحة؟ هل كانوا يطلقون الصواريخ؟. أخيراً يقول بحيرة: "لماذا قصف الجيش وحدات توليد الأوكسجين ومولدات الطاقة الكهربائية؟ لماذا استهدف الجيش هؤلاء؟".


•عن صحيفة "واشنطن بوست"