صناعة الخاتمة

ثقافة 2023/12/11
...

  ياسين طه حافظ

بعد أيام كريمة رأفت بي إثر همٍ وخوف من شر قد يقع، أقول بعد هذه الأيام الثلاثة الكريمة، اقترب اليوم الأخير للسفر. وبدت تلك الأيام الثلاثة تمهيداً لوصول البر، والحياة الجديدة الآمنة. فهذا النهار كله لي، صافياً من أي كدر. والطائرة تقلع بعد يومين في الرابعة والنصف فجراً أي قبل شروق الشمس. نمت مطمئناً أشعر براحة النجاة من ارباكات حياتنا التي في أحيان كثيرة لا تعرف الرحمة. المهم، كل شيء صار ماضياً، لكننا قررنا موعداً جديداً للمغادرة. وطمعنا بالمزيد ورأينا التعجل في العودة يضيع علينا ما لم ننتبه إليه..

هذا اليوم استيقظت مثلما كل يوم، طويت الستارة لتغمرني الشمس وتطلعت للغابة الصغيرة، للفردوس، وللقصر المنيف الذي لا يزال يمتلكه رجلٌ ميت، والذي حدثتكم عنه. بدا البيت الهادئ يتوسط الأشجار المعمرات، ساكناً ومطمئناً لا يستقبل ولا يودع ولا ما صدفة يجيء. أولى الأفكار جاءت عن خاتمة الرحلة ومسراتها الاخيرة، ما تحقق وما لا يزال عالقاً، وما تزال بقية ترددنا أو عجزنا أو خوف تأتي النتائج خلاف ما نرتجي. نقنع النفس بأن كل ارتحال وكل عمل سينتهي، سينتهي على رضا أو على أسف. عزاء هو لا شك. يبقي التساؤل ماذا نعمل من نافع أو جميل قبل وصول الخاتمة لنجد راحة أو لنجد شفيعاً؟
حين أصل نهاية ما أكتب، مقالة أو كتاباً، أفكر أن تكون الخاتمة متقنة أكثر، مؤثرة، مريحة أو مثيرة. وفي خاتمة حياتنا نفكر لو عملنا جيداً وصالحاً، لو لم نسء لأحد، لو لم نفعل ذلك وما استسلمنا، لو أنا بادرنا، لو، لو...، في الايام الصافية التي مضت. نحن الآن نتمنى أن «نصنع» خاتمة جيدة.
لكن السؤال، هل الإنسان حر في أن ينجز ما أراد، وهل هو قادر دائماً على الوقوف إلى جانب الحق ومواجهة الخطأ لا مساومته؟ وهل هو يملك الناصية فلا تفوته فرصة فرح أو جمال مما في هذا العالم؟ هو محكوم بأن يرى الكثير ويدرك الكثير ويخسر الكثير أيضاً..
نعود إلى سؤالنا الصعب، كيف بهذا العجز والرغبة وهذا الردع وتوق الوصول، يستطيع الإنسان أن يصنع خاتمة أو نهاية يريدها؟ في أسبوعين من قلق وترقب تحت رعاية المشفى الكبير تخضني نتائج التحليلات والأفلام الشعاعية، كنت أشعر بالقلق يعاودني كلما قلبنا صفحة لأخرى، حتى شعرت بانفراج الأزمة، وانفتحت باب الحرية، باب الارادة المتمكنة والعالم الآمن. قلت اذاً حان وقت أن أرى. أن أرى «حيدر آباد» كما هي في نهارها المزدحم وناسها الذين يعتركون والظروف ليكسبوا خبز يومهم. عفوكم لا تعنيني المخازن الكبيرة والمولات والمؤسسات ذوات الطوابق العالية. هي متشابهة في مدن العالم، أنا أريد الانسان في «حياته» أريد الازقة الفقيرة بقِدمها ومحاولات الزهو بباب جديد أو حائط مصبوغ أو باقٍ على حاله جيداً ما يزال. وحيث بين البيوت الدكاكين الصغيرة تزين أبوابها أو حيطانها صور أولياء أو صور ممثلات ورياضيين. أريد أرى الابداع والمهارات في الكدح ليعيشوا أو لكي يدفعوا الموت عنهم.
قلت في متحف المدينة سأرى الكثير مما أريد – رأيت سيوفاً قديمة مما خلّف المغول، ونماذج مما دافع به الهنود عن أنفسهم أو زرعهم، ورأيت سلعاً عثمانية تؤكد وجودها بقوة وبنوع من التآلف بينها ومع ما حولها.. لكني انتبهت إلى أن الشحاذ القديم هو ذاك الذي أراه الآن، البائع كما هو بعربته أو بفرْشته على فسحة جانبية، هو ذاك الذي رأيت.. هو الذي أراه، والبقال والعطار هو هو منزوٍ داخل دكانه الصغير في الاضاءة الخافتة..
دارت السيارة من زقاق لزقاق بالكاد تشق طريقها. فإذاً أنا ضائع بين السابلة ذوي اللحى وأغطية الرأس المختلفات والمعاطف أو الجلاليب وانصاف العراة بخرق يقاومون النوء لفحاً أو صقيعاً. أفول فاجع قبل أن يستسلموا ويتوسدوا التراب. وما يزال عذاب العيش. ما يزال اشباههم حيث ادرت الوجه. أنا الان غريب لكن غير مستنكَر. قلوب أولاء بالرغم من البؤس والعسر نظيفة، سمحة ودودة. جمالهم الداخلي ظل مصوناً من بؤس الحياة وكثرة أو زحام السيئات. لكن واحدهم، وهذا مجد الانسان، في شراسةِ ويباس وتدافعِ هذه الفوضى الكبيرة، يكسب قوته و يطعم أولاده... ويتقدم! ِ
ليلة أمس كنا في زيارة لصديق ولدي، هندي من البنجاب. حصل أخيراً على الدكتوراه في موضوع لا قصيدة النثر ولا القصة القصيرة جدا...، ولكن في موضوع «العمل في الشركات»! هكذا يتقدم العالم، حين يحترم كل التخصصات، كل الحرف، كل أنواع المعرفة والمهارات وما لم نكن نراه علما أو معرفة. تتقدم المجتمعات بتغيير ما تفكر به بتوسيع اهتمامها إلى ما لا تعرفه وبمعرفة احتياجات عصرها ومدنيته. بفهم وإدارة أسباب العيش!
هذا الشاب الكادح أكمل دراسته ونال الدكتوراه وهو يعمل. حين سألته إن كانت شهادته سترفع من راتبه أو أجر عمله؟ قال : لا. الشركة تحتاج إلى قدر معين من الكفاءة لهذا النوع من العمل. هي لا تحتاج أكثر. ما كان يسد الحاجة المعينة، يكفيها. أن تطور نفسك فذلك لعمل آخر وإن في شركة أخرى. المسألة تخصك أكثر مما تخص غيرك. أنت توفر أسباب تقدمك وأسباب رفاهك.
قلت: هذا رجل يصنع خاتمة جيدة، يرسم مجتهداً وبعسر حياته ليتقدم، ليصل إلى منطقة أكثر راحة أو إرضاء، أو أكثر حضوراً اجتماعياً يتمناه. الخاتمة من صناعتك، مقالة ، قصيدة، كتاباً أو عملاً أو حياة. في الحياة أو في الكتابة خاتمة جيدة الصنع متقنة تهب فرحاً وإثارة. وخاتمة فقيرة غير مقنعة تكسر جذوة العمل ونتائجه. الخاتمة الذكية المؤثرة تمنح العمل عمراً وتمنحه حضورا معنى!