علي حسن الفواز
قد يكشف موت هنري كيسنجر وزير الخارجية الأشهر في تاريخ الولايات المتحدة كثيراً من الملفات الغامضة، ومن الصناعات الثقيلة في التاريخ الأميركي، إذ كان هذا «الوزير» ومستشار الأمن القومي الأسبق معروفاً بهندسته في إدارة الجهد الدبلوماسي الأكاديمي وربطه بهندسة الأمن القومي، حتى باتت مسؤولياته في الإدارات الأمنية والسياسية والدبلوماسية مثيرة للجدل، فتاريخ الرجل مرتبط بأعنف الانقلابات العسكرية والصراعات الأمنية والحروب الأهلية، ولعل أقساها الانقلاب الدموي في تشيلي، الذي أنهى الحكم الديمقراطي فيها بقيادة سلفادور الليندي، فضلاً عن دوره في ماكان يجري في أفريقيا من انقلابات وصراعات وحروب حول النفوذ والمصالح والأسواق والثروات.
رؤية كيسنجر تتجوهر حول فكرة النفوذ والسيطرة، وحول تحويل العالم إلى ضيعة للمصالح الأميركية، مثلما كانت تتحول تلك الرؤية إلى أداة عنف لكل ما يتقاطع مع النفوذ، وهذا ما جعل علاقته بالرؤساء الأميركان مرهونة بتنفيذ صناعة الرعب ضد الآخرين، حتى كان مصطلح «الكيسنجرية» من أكثر المصطلحات إثارة في مرحلة قيادته للدبلوماسية والأمن القومي خلال سنوات الرئيس ريتشارد نيكسون.
ولعل من أخطر ملفات هذا الوزير كان في ما تحفظه الذاكرة عن دوره في الحروب العربية، فهو منحاز إلى «الكيان الصهيوني» وداعم له في حروبه، لاسيما حرب اكتوبر عام 1973، لكن برغماتيته بدت واضحة من خلال دعمه لسياسة الرئيس المصري أنور السادات في مواقفه ضد الاتحاد السوفيتي السابق، لأنه كان يعي أن تغيير السياسة المصرية يمكن أن يؤثر في تغيير بعض السياسات العربية، بحكم ثقل مصر السياسي والثقافي والديموغرافي، فضلاً عن تأثيراته في تبني سياسة « الخطوة خطوة» المشهورة في التعاطي مع الصراعات، وفي صناعة «التسويات» السياسية، وفك الاشتباكات في الصراع العربي الصهيوني، وهناك من يقول: إنَّ زيارة السادات إلى «الكيان الصهيوني» ليست بعيدة في مقدماتها عن تحبيك المخيال الكيسنجري، فانحياز الرجل إلى الصهيونية جعله مسكوناً بفكرة «صناعة الانتصار» والدعوة إلى خلق واقع يكون فيه الكيان الصهيوني جزءاً من خارطة المنطقة، وبهذا فإن تاريخ الوزير كيسنجر هو صورة للتاريخ الأشد عنفاً للولايات المتحدة، بدءاً من مواقفه المتشددة في الحرب الفيتنامية ودعوته إلى تسليح الجنوبيين، وليس انتهاء بتأثيراته في معطيات كل الصراعات العربية وفرض الأمر الواقع على الأرض تحت يافطة «السياسة الواقعية».