الشعرُ يشبهُ البحرَ في غموضِهِ المريب

ثقافة 2023/12/13
...

 سعد صاحب

بعض الأشياء تحدث مرة واحدة في الوجود، فالحب والايمان والموقف والانتماء لا تتكرر مرتين، وإن تكررت فهي مزيّفة، وكفى بالمرء شرفًا أن يموت لأجل ما يؤمن به من أفكار. وحين يخلع الإنسان ثيابه القديمة لغاية دنيئة، سوف يبقى إلى آخر العمر مشغولًا بهذا الاستبدال المقيت. لا يجيد سوى التقافز كالقرود من عقيدة إلى أخرى، وحينها يصبح مسخًا لا يعرف غير اللعب على الحبال، واتقان لعبة البهلوان الذي تشوّه وجهه من كثرة الأصباغ والخطوط والألوان والعلامات والأقنعة.. (البحر لا يقرأ نفسه مرتين/ وأنا لا أقرأ نفسي مرتين/ فليس لي من جنون البحر إلا ملحه/ وليس لي من حكمة السماء/ إلا أنا/ وذلك الوحي الذي يهمس في أذني/ فاكتب ما شئت من الكلام).
القارئ الحصيف الذي يمتاز بحس ناضج ورؤيا خاصة، يكتشف بسهولة أنَّ القصائد عراقيَّة لا تراعي المحاذير، وتتحدث بطريقة واضحة، عن الحرب والدين والسياسة والأحزاب والموت والجنس والدماء والرحيل، وتدين الفحش والخيانة والسقوط والرذيلة والفساد، وتدعو إلى ترميم الوطن المثقل بالخراب، وحتى الإثارات الحسيَّة تأتي بأسلوب متوازن، لا تثير في دواخلنا ذلك الهاجس الحميم، بقدر ما تحرّك فينا التعاطف أزاء الضحايا، وكأنَّ الجسد العاري الملقى على سرسر الرغبة، كان مجبرًا على الفعل الشنيع، بسبب ضائقة مادية أو خوف أو سطوة او مرض نفسي.. (جنية تتعرّى على فراش الغواية/ ثمّ تكشف مؤخرتها للكلاب والذئاب/ فتنجب عطشًا أسود في عيون الماء/ ولم يعد للبساتين الغريبة رائحة البرتقال/ لم يعد للورد وقار البنفسج).
يهتم الشاعر ببداية القصيدة كاهتمامه في الوسط والنهاية، وبإمكاننا اختيار أي مقطع - لا على التعيين- حتى نعثر على دلالات لا نهائيَّة، وايحاءات أحيانًا تكون مغلقة على نفسها، وفي بعض الحالات تمنحك القليل من الضوء للاستدلال عليها، وفي كلا الحالتين تتناغم معها الأعماق بشكل ايجابي كبير.. (قل لي أيّها المغرم بالجنون/ كيف ارتضيتَ أن تكون معبرًا للخسارة/ كيف ارتضيت الانكسار بين الدهشة والاندهاش/ كيف اختزلت الوقت في رأس قصيدة). للمفردات موسيقى صادحة يحسُّ بها الشاعر وحده، وكل الأصوات والحركات في الطبيعة لها نظام موسيقي خاص، وكل شيء في الوجود يؤدي واجبه على سُلّم من الأنغام المتناسقة، ولولا هذا الايقاع الموجود بين الحروف والكلمات، لما كان هناك تجريب وما كانت مغامرات في الأدب.
وهنا أودُّ أن أشير إلى الانسجام بين الألفاظ وأنغامها في قصيدة قاسم شاتي، المتمرّدة على صوت الجرس الواحد، الذي لا يغيّر من رنينه الممل الرتيب، ولأنّه متحرّر من هذه الطاعة العمياء، نجد في كتاباته مفاجآت تزحزح السكون.. (لسنا الخشبة التي شربت دم المسيح/ ولا الصخرة التي حفرت ظهر سيزيف/ لسنا السيوف التي اجتمعت على ذبح الحسين/ ولا الرماح التي انتزعت كبد الحمزة فأكلته هند/ ولا الكأس الذي أفرغ سمه في فم سقراط).
للهامش حضور جلي يتحدى الأبراج العاجيَّة، ويزيد من التشابك الثوري مع الأفكار المتعالية، متخذًا من الحماسة والفتوة والسمو والتطهير والسحر والتعاويذ والرقى، طريقًا الى مقاومة الهرم والداء والخوف والرقابة والاستبداد.. (كلُّ شيء يشبهني/ حين ألمس ضوء القباب الخضر/ وأمرّر ما تبقى من الحنين/ على مجالس الأمهات اللائي يحلمن بزيارة الأولياء والصالحين/ فيستفزّني الكلام مرة أخرى).
الشاعر يُوائم بين أشياء متناقضة في قصيدة واحدة، فيغترف ما يريد من الماركسيّة والصوفيّة والوطنيّة والفوضويّة والعقلانيّة، ومن روائح المناطق الشعبيّة العبقة بعطر الماضي التليد، ومن ذاكرة شخصيّة لا تنسى ما مرَّ بها من الخبرات المؤلمة، ومن شوارع عراقيّة تضجُّ بأصوات الباعة المهمومين، ومن أزقة ضيقة حدَّ التشابك، تكتظ بالأطفال المحرومين من العشاء والحدائق والنزهات والساحات الأنيقة، ومن عشّاق مطرودين صوب الغياب والنسيان والمجهول، ومن متشرّدين يتعرّضون كل يوم إلى الايذاء.. (قلق أنا/ من الشجر الذي يجهل أسماء البساتين/ من العاشقين الذين تسخر من ذكورتهم أرداف النساء/ قلق من النوم الذي يُدجن ليله بارتياح شديد). يقارن الشاعر قاسم شاتي ما بين تراجعنا المخيف، وبين التطورات العلمية للشعوب، وهذا ما يثبت أننا أمة ماضوية التفكير، تتغنى بعصرها الذهبي الزاخر بالفن والعلم والادب والترجمة، أما حاضرنا البائس فلا يتعدى سوى تواصل المشكلات، والإنسان العراقي يقف هنا عاجزًا مكبلَ اليدين، فهو لم يستفد من ماضيه الجميل والتجارب السابقة، ولا قادر على ايجاد الحلول المناسبة للازمات المتتالية.. (حين أفتح نافذتي على ليل دبي التي تسبح في شعل ضوئية/ كأنّها الكوكب الدُّري/ ثم أمسح زجاج نافذتي/ من غبار الأمس الذي احترق على واجهة الصحراء/ فأرى الأشياء قد اختلفت في مقاييس الكلام/ وصار البعير يحمل على ظهره ناطحات
السحاب).