تساؤلاتٌ عن واقعه وأحلامه وبناه التحتيَّة
صلاح حسن السيلاوي
إنه المسرح، ذلك الفن الذي تتنفسه المعرفة والفلسفة، وتتعالى على خشباته معاني الحيوات بتعددها وسموها واختلافها، إنه الذات الفنيّة التي تلامس بظواهرها وأعماقها ملامح المتلقي وهواجس توقعاته وأغصان أفكاره وظنونه، إنه الفن الوحيد، الذي يعيد نفسه بتجدد دائم، فن تتغير فيه فكرة التكرار، حتى تصبح إضافة وتنويعاً وتطويعاً ونحتاً في النصّ والأداء.المسرح روح المدنيَّة، وصوت الثقافة الحيَّة، لقاء قائم على تفتيت المفاهيم الجمالية للحياة ورسمها من جديد، لقاء قائم على غربلة الأفكار وتشذيب الرؤى، وفتح الآفاق أمام البصائر وإطلاق السواقي على وحشة الصحاري.إنه المسرح وهذه تساؤلات عنه وعن همومه، استفسارات عن رأي المختصين بواقعه، على مستوى النص، والأداء، والبنى التحتيّة، ودعم الدولة، استفهامات عما يحتاج إليه الآن، عن تقييم مستويات حراكه، عن مدى امتلاكه لنصوص مسرحية مهمة، عن دعم الدولة ومؤسساتها لممثليه وكتابه، عن وجود حراك نقدي يستطيع مواكبة العمل المسرحي بكل جزئياته؟
بين مد وجزر
المخرج كاظم نصار، أشار برأيه إلى تحرك المسرح وتحوله، تبعاً للمتغيرات السياسيّة والمجتمعيّة، لافتاً إلى أن واقع المسرح بين مد وجزر، يتحرّك ويسكن، وهكذا، وأن المشكلة هنا ليست في النص والأداء، بل في تثبيت أركان المسرح من خلال، عمل مؤسساتي مثل البنى التحتية، والادارات المتغيرة باستمرار، وعدم وجود استراتيجية، أو بشكل أدق عدم العمل بموجبها وانحسار التمويل المنظم على مستوى العروض، مبيناً أنّ هناك تجليات للأجيال المختلفة، لكن عدداً منهم انسحب أو توارى بسبب عدم وجود ظروف ملائمة للعمل الاحترافي.
وأضاف كاظم نصّار بقوله: يحتاج المسرح العراقي إلى إعادة تموضعه في عمل مؤسساتي احترافي مدعوم ماليَّاً، وإعادة الاعتبار له في الجامعات والمدارس وجعله جزءاً من حاجة الناس ويومياتهم، يحتاج المسرح إلى بيئة ملائمة للنهوض والتجدد.
الحراك الفني المسرحي مشروط بجملة عوامل، منها، شح التمويل، وعدم وجود موسم محترف، وهناك التماعات هنا وهناك لا تشكل رأياً واضحاً لمسيرة يراد لها أن تكون بمستوى تاريخ المسرح العراقي وأهميته.
نصوص هائلة
وقال نصّار، وهو يتحدث عن النص المسرحي وأهميته وتميزه: طبعاً هناك نصوص مسرحيّة هائلة، لكن المشكلة ليست في النصوص، لديَّ في أدراج مكتبتي عشرات النصوص المهمّة، ولكن كيف أنجزها، هي ليست فنّاً فردياً، مثل قصيدة لا تحتاج فيها سوى ورقة بيضاء وقلم، إنّها تحتاج إلى ركائز ماليّة وبشريّة.
دعم المسرح محدود وكيفي وفاقد للمعايير والقضية خاضعة لخطط سريعة خاضعة لوضع بلادنا، هناك في العالم مثلا مفهوم التفرّغ الإبداعي والورش وغيرها.
النقد المسرحي تراجع أيضاً مثلما تراجعت العروض الكميَّة، في التسعينيات كان عندنا عشرات النقّاد يكتبون باستمرار، أما الان فلا تجد لهم نشاطاً نقدياً وبعضهم على حق، فلا يمكن أن تكتب عن عرض فاقد للمعايير والنظام، في بعض المهرجانات ألغيت الجلسات النقديّة التي تصاحب العروض وهذا مؤشر على تراجع أهمية النقد.
المسرح في بغداد والمحافظات
المخرج والشاعر رضا المحمداوي، يرى أنّ من الصعب الإلمام بجميع تفاصيل ومكونات المشهد المسرحي العراقي، في الوقت الراهن، مشيراً إلى أن إطلاق تسمية أو عنوان (المسرح العراقي) يعني الحديث عن المسرح العراقي في محافظات العراق كافة، في حين أنَّ واقع الحال سيشير حتماً إلى الحديث عن المسرح العراقي في بغداد حصرياً، ذلك لأنّ (المسرح العراقي) في المحافظات بشكل عام تبدو الصورة فيه ضبابيّة ومشوّشة وغير واضحة المعالم، بل ومحبطة وغير مشجعة للحديث عنه لكثرة المتاعب والهموم التي يعاني منها وما يواجهه فن المسرح من تحديات وصعوبات يصعب معها الحديث عن واقع المسرح في تلك المحافظات، على حد تعبيره.
وأضاف المحمداوي بقوله: وتكفي الإشارة إلى أن العديد من المحافظات، تفتقد الفن المسرحي وثقافته وتقاليده الاجتماعية، حيث لا توجد فيها أيّة قاعة عرض مسرحي، وإنْ وجدتْ فهي قديمة ومتهالكة، وتنتمي للماضي، وتدير ظهرها للمستقبل! أما إذا تحدثنا عن الفرق المسرحية في تلك المحافظات، فهي غائبة تماماً وليس لها أيّ حضور، وحتى عندما يعمل بعضها في محافظته، فإنّها تبقى تتطلع إلى مسارح بغداد.
أمّا المسرح في العاصمة (بغداد) تحديداً فإنّ المشهد يختلف تماماً، حيث الحيوية والفاعلية والحضور الفني للنتاجات المسرحية، وذلك من خلال مركزية (دائرة السينما والمسرح) ومسارحها المتعددة وعروضها الفنية الحاضرة دائماً، ولا سيِّما في الموسم المسرحي السنوي ودعمها ورعايتها المستمرة للعروض المسرحية، وهي تقدّمُ بذلك مسرحاً محترفاً وناجحاً فنياً، على مستوى النصوص والجوانب المتعلقة في التمثيل والإخراج والسينوغرافيا، وما زالت تقدّمُ عروضاً مسرحية، تم تتويجها بالجوائز الفنية العراقية والعربية، وتشكل علامة فارقة ومتميزة في المسرح العربي ومحافله الفنية.
غياب الجمهور وخطط الدولة
وقال المحمداوي أيضا: لكنَّ هذا المسرح المحترف الناجح فنياً يواجه مشكلة حقيقية، تتمثل بغياب الجمهور العام لعروضه، فالأيام الثلاثة المُحدَّدة لكل عرض مسرحي في بغداد، لا يمكن التعويل عليها كعلامة أو دلالة نجاح تام وكامل، ذلك لأن الجمهور الذي يحضر في تلك الأيام يبقى جمهوراً (نخبوياً) أو (محدوداً) أو (خاصاً) لكنَّهُ لا يمثّل الجمهور العام، ولا يمكن اعتماده كمقياس للنجاح الجماهيري، أو الشعبي العام، وحتى الأيام الثلاثة المُحدَّدة، وجدتُها في هذا الموسم المسرحي الأخير، قد قُلصتْ لتقتصر بعض العروض المسرحية على ليلة واحدة فقط، ولنا أنْ نتصوَّر حجم المأزق الذي يواجهُهُ الفن المسرحي، بعد أنْ أصبح فناً نخبوياً أزاء الجمهور.
دائماً أصفُ المسرح بأنه (الفن الصعب) من حيث المتطلبات والمستلزمات اللازمة لإنجاز عروضه، ومن هنا فإنَّ مواجهة مشكلاته ومحاولة تذليل العقبات التي تعترض طريقه ليستْ بالأمر اليسير إذا ما أردنا فناً مسرحياً جماهيرياً وشعبياً فاعلاً ومتفاعلاً مع الجمهور العام وفي المحافظات كافة. ولذا فإن المسرح العراقي أحوج ما يكون إلى خطة حكوميّة ثقافيّة فنيّة مركزيّة تشترك في تنفيذها وزارة الثقافة ووزارة الشباب (والرياضة) للانطلاق نحو ثقافة مسرحية بجميع فنونها وآدآبها، وكذلك تبنّي فكرة تقديم الدعم المادي والمالي والمعنوي للفن المسرحي (على أن لا يقتصر ذلك على أجور النقل والطعام فقط أو معاملة الفنانين على أساس العمل الوظيفي الروتيني) ووضع الخطة الثقافية لبناء وتشييد مسرح مركزي في كل محافظة، فضلاً عن الأقضية والنواحي، والعمل على تأسيس وتكوين الفرق الفنية المسرحية، ودعم الفرق المسرحية الأهليّة، والعمل على استقطاب طاقاتها الفنيّة واستثمارها، وكذلك تضمين أبواب وفروع جائزة الإبداع الحكوميّة جميع الفنون المسرحية، بشكل ثابت ومستمر.
وأزاء الحراك المسرحي الذي يشهدُهُ المسرح العراقي فإنَّ الكتابات النقديَّة تتفاوتْ في حضورها وغيابها، تبعاً للناقد المسرحي نفسه، فبعض الأسماء بقيتْ وفيّةً ومخلصةً للعمل النقدي، ولذا تراها حاضرةً في متابعتها النقدية بشكل دائم ومستمر، في حين أنَّ بعض الأسماء يتباين حجم مشاركتها ومساهمتها، فتغيب تارةً وتحضر تارةً أخرى، في حين يكتفي البعض الآخر من الأسماء، بكتابة منشور سريع مختصر على صفحتهِ الشخصية في (الفيسبوك) من دون مراعاة لشروط وخصائص النقد الأكاديمي المعروف بجديتهِ العلميَّة.
أيقونة في المهرجانات العربيَّة
الكاتب والممثل المسرحي علي العبادي، يرى أنَّ المسرح العراقي مرَّ بتمرحلات عديدة، قطع فيها شوطاً كبيراً، وقد كان أيقونة مهمة في العديد من المهرجانات العربية والدولية، بما يقدم من نتاج، لكن التحولات التي شهدها البلد بعد 2003، ألقت بظلالها على واقع المسرح، وهذا بالطبع قد شكل تراجعا في مستوى النتاج، على حد وصفه.
وأضاف العبادي موضحاً: نلحظ وبشكل لافت افتقار الكثير من المحافظات العراقية، إلى مسرح يقدم فيه الفنانون نتاجاتهم، مما حدا بهم الى تقديم نتاجاتهم في قاعات تفتقر إلى أبسط مقومات المسرح على الأصعدة كافة، وفي مقدمتها الجانب التقني، فضلاً عن غياب قاعة للتمارين، وهذا بدوره جعل الفنانين يبحثون عن بدائل، (الشارع، المقهى، الحديقة) الخ.. من أجل مواصلة الفعل الجمالي.
شخصياً، تمرنتُ في المقهى وفي إحدى الجزرات الوسطيَّة لأحد شوارع المدينة، من هنا نستشفُ غياب دور الدولة في دعم الحراك المسرحي، في ظل هيمنة فواعل التكنولوجيا بطريقة مريبة، وهذا يشكل خطراً كبيراً على المسرح، بعد أن انحسر عنه الجمهور، ولا تحضره سوى النخبة، أصبح الآن حتى عدد حضور النخبة قليل جداً، وأنا هنا أتحدث عن عروض مسرح الدولة (الفرقة القومية للتمثيل)، ومع كل هذا الخراب الذي يلف أحلامنا وتطلعاتنا، نجد أن المسرح العراقي متصدر في بعض مفاصله، من خلال ما يحصده من جوائز، خصوصاً في حقل التأليف المسرحي، إذ إن هناك الكثير من التجارب الكتابيَّة، دخلت في حقل الدراسات العليا، في بعض الجامعات العربيَّة وغيرها، وترجمت نصوصها إلى لغات عديدة، طبعاً أنا أشرت إلى النص لأسباب عديدة، منها: بما أنّ غالبية المشاركات الدوليَّة، تكاد تكون من حصّة دائرة السينما والمسرح، متمثلة بالفرقة القومية للتمثيل، فإنّ غالبية هذه العروض تهيمن عليها السرقة والاستنساخيّة في طروحاتها الجماليَّة، خصوصاً في ما يتعلق في حقل السينوغرافيا، هذا لا يعني عدم وجود نتاجات أصيلة تستحق الثناء والتقدير.
يحتاج المسرح العراقي إلى الكثير، بنى تحتية، دعم من قبل الدولة مادياً ومعنوياً، لهذا المفصل المهم اجتماعياً وثقافياً، دعم من قبل المؤسسات الساندة مثل (اتحاد الادباء والكتاب العراقيين) على أساس الفاعل الإبداعي وليس الاجتماعي، إعادة تشكيل الفرق القومية للتمثيل في المحافظات، تقويض السلطات المحلية في التدخل بشؤون المسرح، بما ينعكس سلباً على نتاج الفنان، وإطلاق سراح قاعات المسرح التي هيمنت عليها.
في صدارة النصوص العربيَّة
ثم تحدث العبادي، عن طبيعة الحراك المسرحي وأهمية نصوصه في البلاد قائلا: الحراك المسرحي في العراق جيد في حدود المهرجانات، لكنّه ضئيل في حدود العروض اليوميّة، إلى الآن المسرح لم يتحول إلى طقس لدى الجمهور أو المشتغلين فيه، تحول إلى حقيبة سفر من أجل السياحة، ومحظوظ من ظفر بمهرجان ما، لأنّ المسرح يحتاج دعماً مادياً ومعنوياً، والدولة هي في معزل عن ذلك مما جعل الفنان يعيش في غربة ما بين مطرقة التهميش وسندان الانتماء له، هناك بعض المحافظات العراقيّة، يمتد غياب المسرح فيها لشهور عديدة، ومن ثم فإنّ هذه المهرجانات لا تعدو كونها ترقيعاً لهذا الخراب الهائل، وباباً من أبواب السرقة، وليس دلالة انتعاش
وعافية.
طبعاً النص المسرحي العراقي، يقف في الصدارة عربياً، لما يمتلكه من حمولات درامية، وقد شغل الكثير من المخرجين العرب، إنَّ الدراما اليوميّة التي نعيشها في الواقع أو القيامات اليوميّة، جعلت من النص العراقي نصاً ساخناً محتدماً، مع هذه المتغيرات السريعة، ليست المتغيرات العراقية فحسب بل العربية أيضا، وهذا ما أفرز لنا نصوصاً مهمة كثيرة ولكتاب كثيرين، باتت أسماء هذه النصوص معروفة عربية، وقد دخلت مختبرات البحث العلمية، وحصدت جوائز عربية مهمة كما أسلفت.
أما الحراك النقدي المسرحي، فهو نشط ومتواصل مع كل هذه التحولات الجماليّة، في بنى العروض والنصوص المسرحيّة، لكن للأسف بعض الطروحات النقديّة وصفيّة لا تتجاوز شرح العمل، فضلاً عن وجود نقاد يطبلون ويزمرون لعروض بائسة فكراً وجمالاً، وهؤلاء أصفهم بمشعلي الحرائق في المسرح، لكن مع وجود هذا الكم الهائل من الرداءة النقديّة، هناك جودة قليلة في طروحات بعض النقاد، وبالطبع هؤلاء مغيّبون في المهرجانات أو المحافل
المسرحيّة.