كيف تكوَّنت الصهيونيَّة؟

منصة 2023/12/20
...

 إيلان بابيه

 ترجمة: مسلم غالب


 الدول الغربية بشكل عام، وألمانيا على وجه الخصوص، حاولت التعويض عن قرون من معاداة السامية كما يجب عليها فعل ذلك.

بدلاً من التفكير في تبعات العنصرية التي ما زالت توجه المجتمعات الغربية، تكفرهذه الدول عن ذنبها بدعمها الأعمى لدولة إسرائيل وسياستها. ما يمقته الغرب - وعلى وجه الخصوص بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية - هو تقبل أي مسؤولية عن المواقف التاريخية المبنية على الإسلاموفوبيا في الغرب التي شكلت المشروع الصهيوني. كما أن الطبقات الحاكمة البريطانية - بما في ذلك مجموعة من النبلاء اليهود البريطانيين لم يعترفوا بالدور الذي لعبه عالمهم الإمبراطوري والمعادي للسامية في تسهيل وتوسعة احتلال فلسطين. التطبيق المثير للاهتمام لنموذج الاستيطان الاستعماري في دراسة حالة فلسطين، يتجاهل إلى حد ما السياقات الاستعمارية التي يعمل فيها هذا المشروع الاستعماري الاستيطاني. 

من دون دعم الإمبريالية، لم يكن يمكن للمستوطنين المستعمرين أن يدخلوا بلدان الشعوب الأصلية وطردهم منها في ما بعد. المسؤولية عما سماه باتريك وولف في وقت لاحق «القضاء على السكان الأصليين» تقع بالكامل على حركة الاستيطان الاستعمارية، لكن التآلف بين المسيحية الإنجيلية (على جانبي المحيط الأطلسي)، والنخبة السياسية البريطانية والنبلاء (وعلى وجه الخصوص الأعضاء اليهود من هذا المجتمع) قدم التبرير الإمبراطوري لمشروع أدى إلى كارثة للشعب الأصلي في فلسطين. أدى المشروع الاستيطاني الاستعماري الصهيوني إلى النكبة في العام 1948. هذا التطهير العرقي مستمر حتى يومنا هذا، وكان ممكناً في الأصل بواسطة تآلف قوي في الغرب مهدت لحرمان الفلسطينيين حقوقهم في الأرض.

عندما يتحول إعادة استقلال وتحرير فلسطين من حلم إلى واقع، سيتم تحقيقهما من خلال وسائل أخرى. وعندما يتحقق هذا الحلم، سيتم محاسبة المسيحية الإنجيلية على الدور الذي لعبته في تدمير فلسطين، وسيعزز ذلك الاعتراف بدور الغرب في هذا الأمر. لا أحد يعترف أن الصهيونية كانت في البداية مشروعًا مسيحيًا إنجيليًا. غالبًا ما يتم تجاهل جذور الصهيونية عندما ينظر المؤرخون إلى السبب في قرار بريطانيا بدعم مشروع الصهاينه اليهود لاستعمار فلسطين وإنشاء دولة يهودية هناك. هذا هو بُعد تاريخي مهم وأساسي لفهم نجاح الصهيونية بعد عام 1917. تحضير إسرائيل للاستيلاء على فلسطين لم يكن بحاجة ليواجه التحديات الأخلاقية والسياسية، حتى في وقت كان معظم العالم ينظر إلى الاستعمار كانتهاك صارخ للقانون الدولي.

كانت هناك العديد من العوامل التي ساهمت في نجاح الصهيونية والدعم الدولي الذي احتاجته الدولة الصهيونية الجديدة. الهولوكوست، وبالأخص الشعور بالذنب لدى الغرب، والخوف من الإسلام، والمصالح الرأسمالية والصناعية، والدعم الأمريكي، كلها لعبت دورها. ولكن كانت هذه عوامل داعمة ومساندة للمشروع بدلا من تدشينه منذ البدء. التحالف بين المسيحيين الإنجيليين، على جانبي المحيط الأطلسي، والطبقات الحاكمة البريطانية (خاصة بقيادة اليهودية الأرستقراطية البريطانية) مهد الأرضية لصهينة فلسطين. هذا التحالف حتى اليوم ما زال حيا، ويستمر في حماية إسرائيل ومنع الضغوط العادلة والأخلاقية من الخارج لوقف سياسات الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين. تم تشكيل هذا التحالف بين عامي 1850 و 1918 ولم يدفع بريطانيا الإمبراطورية نحو فلسطين بريطانية  فحسب - عندما كانت لا تزال جزء من الإمبراطورية العثمانية - ولكن لتخيلها على أنها فلسطين يهودية أيضا.

كانت دوافع المسيحيين الإنجيليين دينية، ومزيجا غريبا من معاداة السامية والشغف بالسامية. كان هناك إعجاب ديني بالدور الذي يلعبه اليهود في خطط الله للمستقبل من جهة، وكراهية اليهودية كهرطقة من جهة أخرى (حسب الإعتقاد السائد كان اليهود مسؤولين عن موت عيسى). من أجل التوفيق بين الاثنين، كان على اليهود أن يكفروا عن طريق القيام بدور في مخطط إلهي يؤدي إلى عودة المسيح المنجي، وقيامة الموتى ونهاية الزمان. في نهج آخر للمصالحة بين هذا العداء والإعجاب، قامت المسيحية الإنجيلية، خاصة في بريطانيا، بالتخلي عن تصوير اليهودية كدين وتحويلها الى عرق أو أمة أو شعب. كان لهذا التصوير المعجب باليهود نتيجتين متناقضتين: من جهة  أثر على ظهور أفكار مماثلة بين المثقفين اليهود في أوروبا في منتصف القرن 19، ومن جهة أخرى، قدم التبرير الإيديولوجي العنصري لإبادة يهود أوروبا على يد النازيين إبان الحرب العالمية الثانية.

خلال عملية طويلة استمرت حتى منتصف القرن 19، تمكن المسيحيون الإنجيليون في بريطانيا من إقناع حكومتهم بأهمية فلسطين ستراتيجياً في فترة ما بعد الدولة العثمانية. ففي تفكيرهم كان يجب أن تكون فلسطين يهودية، سواء لإسراع قدوم المسيح أو كوسيلة للتخلص من اليهود في أوروبا. في أوائل القرن العشرين، أصبحت هذه الأفكار ستراتيجية وتم التفكير فيها جنباً إلى جنب مع الحركة السياسية الجديدة للصهيونية، التي أسسها تيودور هرتسل عام 1897. روّج كل من هرتسل والنبلاء اليهود البريطانيون «العودة» اليهودية إلى فلسطين على أنها تطبق فقط على يهود شرق أوروبا. لم ترحب النخبة اليهودية البريطانية بهؤلاء اليهود الذين فروا من الشرق وسعوا للجوء من معاداة السامية في بريطانيا. أدى هذا الإستياء إلى تكوين تحالف بين النبلاء اليهود وزعماء سياسيين مثل آرثر بلفور. 

منذ عام 1905، دافع بلفور بشغف ضد الهجرة اليهودية إلى بريطانيا. كما عمل عن كثب مع النبلاء اليهود البريطانيين مثل هربرت صاموييل لدفع الحكومة البريطانية نحو ستراتيجية واضحة للتنازل عن فلسطين من قبل الإمبراطورية العثمانية، من أجل إنشاء دولة يهودية هناك. تم توظيف ديفيد لويد جورج، رئيس الوزراء المعادي للإسلام والفرنسيين، والذي كان يحلم بإعادة المجد الصليبي في «الأرض المقدسة»، قبل الفرنسيين.  مكافأته جاءت لاحقا عندما تم تسمية مستوطنة يهودية باسمه، والتي تم بناؤها على الأرض المصادرة من القرية المدمرة، مالول في وادي مرج ابن عامر (رمات داوود).

كان تحويل فلسطين إلى دولة بريطانية- يهودية، سياسة بريطانية رسمية بالفعل في عام 1915 قبل أن تظهر علنًا في عام 1917 في وعد بلفور المشين. ظهر حلم الصهاينة بعد سبعين عامًا من التأثير في بريطانيا. تم تمرير جهود اللوبي السياسي مثل عصا سباق الجري المتنقلة. أنتقلت قيادة مشروع استيطان فلسطين من المسيحيين الإنجيليين إلى النبلاء البريطانيين اليهود. خلقت هذه الجماعة - بمساعدة السياسيين البريطانيين البارزين - آلة تأثيرسياسي صهيونية فعالة ساعدت في توليد سياسة بريطانية داعمة للصهيونية سمحت في نهاية المطاف بإنشاء دولة يهودية في فلسطين.

كان نجاحهم - الذي تحقق بالفعل في عام 1915- له عواقب كارثية بالنسبة للفلسطينيين. لم تكن النكبة، كارثة الشعب الفلسطيني عام 1948، نتيجة فقط لقرار بريطاني بالسيطرة على فلسطين، ولكن لجعل فلسطين دولة صهيونية. اعتذار الغرب عن العداء تجاه اليهود وتقديم تعويضات لهم عمل أخلاقي وضروري. لكن في الوضع الراهن، محاسبة الدور المسيحي اليهودي  في تدمير فلسطين وشعبها أكثر ضرورة وإلحاحاً.


عن موقع: The Palestine Chronicle