إحسان التّميمي: الحداثة العربيَّة شعريّة فقط
حاورته: رندة حلوم
ناقد يسعى للجديد والمختلف لحفرياته في المتون الأدبيَّة، ويجمع روافد عدة في بوتقة الفكر النقدي والثقافيّ، منطلقاً من أرض المتن العربيّ ليؤسس مشروعه النقدي، مستلهما مفاهيم نقديَّة وافدة تارة، ومجترحاً لبعض المصطلحات النقديَّة من أرض النص تارة أخرى، فتبنى مصطلح «القرآنية» في كتابه الأول، بعد عرضه على شروط المصطلح التي وضعها المجمع العلمي العراقي، ولذلك بلغ هذا المصطلح الآفاق عند كثير من الباحثين ممن أتوا بعده، وكان أول من وضع حدوداً لمصطلح «المعادل البصري» بعد أن أجرى مقاربة فيه مع مصطلح المعادل الموضوعي، في كتابه الحاصل على جائزة الشارقة للإبداع في عام 2007.
ومن اشتغالات (أدب الحرائق، النقد التجريبي في الأدب الرقمي التفاعلي، ما بعد الحداثة في الرواية)؛ وغيرها من الدراسات والكتب النّقدية القيّمة؛ إنه الناقد الدكتور إحسان التميمي الباحث الأكاديمي الذي تنقّل بين العمل الإعلامي والتٌدريس الجامعي والاشتغال بالهمّ الثّقافي، والانشغال بالتّجديد في النّقد العربي الحديث.
* منذ بداية مشوارك النّقديّ كان لك منجز وحضور في المشهد الثّقافي، والقارئ لخطابك النّقدي يلاحظ اختلافاً في الرّؤية النّظريَّة، وفي الإجراءات ،فإلى ما تسعى من هذا الاختلاف؟
-الاختلاف عن النّسق السّائد ليس هدفاً بحد ذاته بالنسبة لي، وإنّما سعيت منذ البداية – بعد استقراء الخطاب النقديّ العربي- إلى تأسيس مشروعي النقديّ الخاص، الذي انطلق من بثّ تساؤلات كان من أهمها السّؤال الجوهري الذي مفاده: لماذا يعتمد النّقاد العرب المعاصرون على اجترار النّظرية النّقديّة الغربيّة، وإسقاطها على النّصوص الأدبية المعاصرة؟ لماذا لا يجري العكس بأن تتأسس النّظرية النّقديَّة العربيّة من خلال استنطاق النّص الأدبي الأنموذجي.
ومن ثم انتاج النّظرية التي يمكن تصديرها إلى المشهد الغربي. إن اسقاط النظرية الغربية على النّصوص الأدبية العربية، أفقدها الكثير من خصيصتها و فاعليتها. لأنّ النٌظرية الغربية قوالب جاهزة انطلقت من استنطاق النّصوص الأدبية الغربية التي تحمل خصائص مختلفة عن النّصوص الأدبيّة العربيّة. ولهذا اضطلعت منذ البداية باستنطاق نماذج من النّصوص الادبيّة، ثمّ تحليلها، واجتراح بعض المفاهيم والمصطلحات الخاصة بها، وهذا لا يعني عدم الاستناد إلى النظريَّة النّقديّة الغربيّة، فهي لا غنى عنها، ونحن نستلمها على نحو مباشر ،او غير مباشر فضلا ًعن ذلك فإني سعيت أيضاً إلى تيسير المفاهيم النّقديّة ذات المنحى الفلسفي أو الأدبي، فالتيسير مهم لاستقطاب القارئ مرة أخرى بعد أن هرب من تلك المعادلة.
* القارئ في منجزك النّقديّ، يجد اجتراحك لبعض المصطلحات النقديّة مثل (القرآنيّة، أدب الحرائق، المعادل البصري، النقد التجريبي الرقمي) وغيرها من المصطلحات في النّقد الحديث، ما أهميّة المصطلح النّقدي، ولماذا توليه هذا الدّور؟
-النّاقد هو حلقة الوصل بين النّص ومتلقيه، فهو يسهم إلى حدّ بعيد في فكّ شفرات النّص وتحليله، وتقديمه إلى المتلقي على نحوٍ أنموذجي ينمّي الذّائقة، ويعرّف بالقراءة السّليمة التي يجب على المتلقي أن ينتهجها.
هناك بعض النّقاد من يزيد من غموض النّص وتضبيبه عبر الخلط بين المصطلحات وعدم وضوح المنهج الأسلوبي لتفكيك النّص. وهناك من يستدعي المصطلحات الغربية ويفرضها على النّصوص العربيّة التي قد لا تنسجم مع معطيات المصطلح، ولهذا أصبح ضمن مشروعي النقديّ والثقافيّ الذي أسعى لتحقيقه هو الانطلاق من المتون والخطابات العربية، وتأسيس نظرية وفقا لاستنطاق تلك النصوص ضمن الخطاب. وهذا لا يعني عدم استلهام بعض المصطلحات الغربيّة وتوظيفها، فضلا عن توليفها بما ينسجم مع لغة النّص العربيّة وأدواتها.
فقد وضعت حدوداً لمصطلح المعادل البصريّ -مثلا- من خلال التّمييز بين المعادل الموضوعي والمعادل البصري، واشتغلت على هذا الأخير وهو مصطلح سينمائي يختص بالمرئيات وحينما ننقله إلى السّرد نتعامل مع البينة السّردية تعاملاً مرئيّاً وسينمائياً، فالمشهد السّردي المتخيّل ينطوي على مغزى تعبيري غير مباشر يثري الدّلالة من جهة الأنساق الجماليّة والمضمونية. ولهذا استفدت من النّصوص السّردية العربيّة في وضع حدود خاصة لهذا المصطلح، وكذلك بالنسبة لبقية المصطلحات من مثل (النقد التجريبي) الخاص بالأدب التفاعلي الذي كنت من الرّواد العرب في الكتابة عن تجاربه منذ عام 2005 حينما كنت عضواً في إتحاد العرب للإنترنت، وشاركت بعدها في أوّل ندوة عن الأدب التّفاعلي في الشّارقة عام 2007، وانطلقت من وضع النّصوص الرقمية لوضع هذا المصطلح، وغير ذلك من المصطلحات الأخرى.
* نال كتابك الأخير (ما بعد الحداثة في الرّواية) اهتماّما، ماذا أردت أن تقول من خلاله؟
إن مفهوم ما بعد الحداثة من المفاهيم العصيّة على الفهم، لأنه يعد امتدادا للحداثة، أو مقاطعا لها ولمفهومها الشائك. ودراستي لهذا المفهوم انطلقت من جنبتين مهمتين أولاهما: إن كثيراً من التحولات الاجتماعيّة والسياسيَّة تعود إلى التحولات في الفكر الفلسفيّ كما هي الحال في طروحات هيجل وماركس، و نيتشة ويعد هذا الأخير رائدا في مجال التأسيس لمفهوم الحداثة وما بعدها من خلال طرحه لمفهوم خطير وهو مفهوم العدميّة. وتعني (أن لا قيمة للقيم). وآخراهما: الجنبة الأدبيّة التي تتمثل في جنس الرّواية التي تعد ملحمة عصرنا الحديث. وتكمن أهميّة الكتاب في منحاه التيسيري لتلك المفاهيم، من خلال إجراء مقاربات معرفيّة خاصة تكشف عن تلك المفاهيم، ولهذا يدرس هذا الكتاب في جامعتين عراقيتين في الدراسات العليا، فضلا عن أنّه وضع ضمن المصادر التي يتم اعتمادها في الامتحان التنافسي لطلبة الدكتوراه في جامعة بغداد.
*بوصفك أحد كتاب القصّة القصيرة، كيف تجد مكانة هذا الجنس الأدبيّ بين الأجناس الأدبيّة الأخرى، وكيف تجد قصّة ما بعد الحداثة؟
-إن جنس القصّة القصيرة لم يحظ بما يليق به بالموازنة مع الأنواع الأدبية الأخرى من مثل الرّواية، ولكن جنس القصة القصيرة من الأجناس المهمة المعبرة عن عصرنا، بل هي امتداد لحياتنا لأنها تأخذ لمحة من الحياة. وتعرضها بصيغة مكثفة لا تخلو من التّرميز والعمق والدّهشة. أمّا قصّة ما بعد الحداثة القصيرة فاعتقد أنها تتجلى في القصة القصيرة الرقمية التّفاعلية. فهي تترك المجال للـ (ملتي ميديا) أو الوسائط الالكترونية في تحقيق المنحى الدّلالي والجمالي لها كما أنها تفتح الآفاق للقارئ في الاختيار والتّفاعل.
*تكتب الشّعر والقصّة والسّيناريو، كيف وافقت بين هذه الأجناس، وهل تعدد الأجناس التي يكتبها الأديب ميزة في خطه الإبداعي إن وجدت؟
-أكتب الشعر منذ أيامي الأولى حين كنت طالبا في مرحلة البكالوريوس في قسم اللغة العربية، وكنت متأثرا بالسياب ومظفر النواب و شعر لوركا وبودلير المترجم، وكتبت الشعر ولم أنشر قصيدة واحدة في صحيفة عربيّة أو محلية، وقد لاقى شعري استحسان شعراء معروفين في الوسط الثقافي. ولكني عزفت عن النشر لاسباب ربما تتعلق بأني عرفت في الوسط الثقافيّ بكوني ناقداً، وهذا ما جعلني اتراجع عن النشر أو أرجئه، ولم أعلم أن السنوات تطوى بسرعة خارقة للعادة. أمّا بالنسبة للقصّة القصيرة فقد نشرت في مجلات عراقيّة معروفة من مثل الاسفار والطليعة الادبيّة وغيرها قصصاً قصيرة، ولكني لم أهتم أيضا بإصدار مجموعة قصصَّة للسبب نفسه. امّا كتابة السيناريو فقد كتبت نصوصا تاريخيَّة دينيَّة، بعضها قيد الانتاج.
أرى أن تعدد الاجناس في الكتابة عند المبدع ميزة في خطه الإبداعي وهي تنم عن دربة ومراس، ولكن استغراق المبدع في الكتابة في جنس بعينه له الميزة في إظهار إمكانيته وشهرته في الوسط الثقافي.
أدب الحرائق من ضمن المصطلحات التي اجترحتها قبل أكثر من عشرة أعوام، ما حدوده وما أهميته، ما هي الإضافة التي يستلهمها القارئ منه؟
قبل أن اجترح مصطلح “أدب الحرائق” بدأت من استقراء المشهد الأدبي العراقيّ قبل عام 2003 وهي مرحلة هيمنة سلطة نظام صدام الذي استند في خطابه إلى توظيف بعض المصطلحات التعبويّة ومن ضمنها (أدب الحرب)، وهو مصطلح يمثل إتجاها تابعا لمؤسسة السلطة الثقافيّة آنذاك، ولم يكن هناك مصطلح يمارس المعارضة لهذا المصطلح المؤدلج، ولذلك طرحت مصطلح (أدب الحرائق) ووضعت له مقدِّمة وحدوداً تعريفية بموازنته مع مصطلح (أدب الحرب)، وأعني به الأدب الذي يشمل الحرب ومابعدها والنتاج الذي ينتمي لمؤسسة السلطة، والنتاج المعارض له أيضا ولهذا يحمل هذا المصطلح الصبغة الشمولية، وأيضا أقصد بـ (الحرائق) هي حرائق الإنسان القيميَّة والإنسانيَّة. ولهذا للمصطلح مصاديق عدة سواء أكانت محليّة أو خارجيّة.
*إلى أي مدى تسطيع الحداثة أن تفرض عربيتها الكاملة على الأدب، وكيف نبتعد عن اجتلاب حداثة معلبة من الغرب، سواء كانت في النقد أو في أي جنس أدبيّ آخر؟
-إن الحداثة مخاض التحولات في المشهد الغربي على كافة الصعد أما الحداثة العربيّة فهي حداثة شعريّة فحسب، ولم تكن نابعة من العمق الفكريّ والفلسفيّ، والاجتماعي والاقتصادي وإنما هي اجترار لحداثة مشوهة بعد أدخالها في الخطاب العربيّ سواء أكان فكريا أم أدبيا، وأرى أن نهتم بإحداث تحولات شبيهة بالغرب نابعة من حاجات الأمة العربيّة والإسلاميّة ومن ثم استنطاق تلك التحولات من أجل خلق نتاج أدبي نابع من هذه الرّحم.