زهرة السيّاب الأولى
شاكر الغزي
اتفقوا على أن (هل كان حباً) هي أول قصيدة من الشعر الحرّ كتبها السيّاب ببغداد في 29ــ 11ــ 1946. ونشرها في ديوانه الأول (أزهار ذابلة) الصادر في مصر أواخر عام 1947.وفي الهامش كتب أنها (محاولة جديدة) من شعر جديد سماه (الشعر المختلف الأوزان والقوافي). وأشار الأستاذ رفائيل بطي في مقدمة الديوان إلى أنها محاولة جديدة يأتي فيها الشاعر بالوزن المختلف وينوع في القافية، محاكياً الشعر الإفرنجي.عاد السيّاب في عام 1950، وأكد في مقدمة ديوانه الثاني (أساطير) بأنّ (هل كان حباً) هي أول تجربة له من هذا الشعر الجديد، الذي لم يسمه بالشعر الحرّ، وإنما ألمح بذكاء إلى أنه قائم على (التفعيلة)، إذ انتبه خلال مطالعاته في الشعر الإنگليزي إلى أنه يقوم على (الضربة) و(السطر)!.
رأى السيّاب أنّ (التفعيلة) عندنا يمكن أن تقابل (الضربة)، ولكتابة قصيدة مشابهة لما عليه نظام الشعر الإنگليزي يجب استعمال الأبحر ذات التفاعيل الصافية للحفاظ على انسجام موسيقى القصيدة، على أن يختلف عدد التفاعيل من بيت إلى آخر.
هذه هي رؤية السيّاب التي قدّمها في (أساطير) عن الشعر الجديد والذي يكاد يسمّيه (شعر التفعيلة) وإنْ لم يفعل! وهي تسمية ألصق به وأدقّ من مصطلح (الشعر الحرّ).
غير أنّ هذه الفكرة لم تكن ناضجة كما ينبغي في (هل كان حباً) حيث كان يرى وقتها أنّ اختلاف عدد التفاعيل المتشابهة من بيت إلى آخر، يجب أن يخضع لقانون البحر نفسه، فينحصر بين (بحر من البحور ومجزوآته)، بمعنى أنّ هناك شبه نظام يجب أن لا يقلّ عدد التفعيلات عنه ولا يزيد عليه. فمثلاً، أعداد التفعيلات الممكنة لبحر الرمل الذي كُتبتْ عليه القصيدة: التام: 6 تفعيلات، المجزوء: 4 تفعيلات، المشطور: 3 تفعيلات، المنهوك: تفعيلتان.
يبدو أنّ السيّاب وقتها كان رافضاً لسلطة البيت الشعري القديم؛ ولذلك استبعد فكرة التفعيلات الستّ، فانحصر استخدامه بين تفعيلتين إلى أربع، بمعنى أنّه كان يراوح بين المنهوك والمشطور والمجزوء. ولنأخذ المقطع الثاني من القصيدة لتوضيح ذلك:
هل يكونُ الحبُّ أنّي.. منهوك (2)
بتُّ عبداً للتمنّي؟..منهوك (2)
أم هو الحبُّ اطّراحُ الأمنياتِ..مشطور (2)
والتقاءُ الثغرِ بالثغرِ، ونسيانُ الحياةِ؟.. مجزوء (4)
واختفاءُ العينِ في العين انتشاء.. مشطور (3)
كانثيالٍ عادَ يفنى في هديرِ.. مشطور (3)
أو كظلٍّ في غديرِ.. منهوك (2)
ولكنّ السيّاب نفسه استعمل (التفعيلة الواحدة) في قصائد (أساطير) و(اتبعيني) و(في ليالي الخريف الحزين)، بل و(نصف التفعيلة) في قصيدة (أنشودة المطر). واستعمل (خمس تفعيلات) في قصيدة (جيكور والمدينة).
ما سبق، يوحي بأنّ فكرة الشعر الحر لم تنضج عند السيّاب إلّا في عام 1948 ــ عام الانطلاقة الحقيقية للشعرّ الحرّ ــ حين نظم قصائده الحرّة (أساطير، اتبعيني، في ليالي الخريف الحزين، وفي السوق القديم..)، وطرح رؤيته لهذه الفكرة في مقدمة ديوانه (أساطير).
أما في عام 1946، وقت كتابة (هل كان حبّاً)، لم يكن هذا التصوّر الناضج وارداً على ذهن السيّاب، بل كلّ ما كان يراوده آنذاك هو التجريب المتكرّر ضمن محاولات، كانت إحداها مختلفة عمّا سبق في أنّ عدد التفعيلات لم يخضع لنظام ثابت، وإنْ كان يراوح ضمن إطار عام شبه نمطيّ.
أما قوافي (هل كان حباّ)، فللمقطعين الأول والخامس ذات نظام موحّد، هكذا: (أ أ أ ب ب أ أ). وعكسه (أ أ ب ب أ أ أ) للمقطع السادس. وكان للمقطع السابع، نظام منفرد: (أ أ أ ب ب ب ب). أما المقاطع: الثاني، الثالث، الرابع، والثامن، فكانت ذات أربع قوافٍ، وتجري هكذا (ليست أكثر من مراوحة لتوليفات متغايرة):
(أ أ ب ج ج د د)
(أ أ ب ب ج د د)
(أ ب ب أ ج ج د)
(أ ب أ ب ج ج د).
وأول مَنْ ردّ على السيّاب شخصياً، بأنّ قصيدته (هل كان حبّاً) ليست شعراً حرّاً، هو صديقه المقرّب كاظم جواد، فكتب في مجلة الآداب: (قصيدتك (هل كان حبّاً) ليست من الشعر الحرّ، إنها أقرب إلى الموشّح منها إلى ذلك اللون من الشعر، ليس في القصيدة سوى اختلاف عدد التفاعيل في بعض أبياتها عن مثيلاتها في أبيات أخرى، وليس هناك أيّ تحرّر من القافية)(1).
فردّ السيّاب على صديقه: (في الموشّحات ــ أو بالأحرى، في بعضها ــ تنويع في عدد التفاعيل ولكنه تنويع مقيّد، وكذلك شأن القافية: أي أنّ كل مقطع من مقاطع إحدى هذه الموشّحات، صورة طبق الأصل للمقاطع الأخرى من حيث ترتيب القوافي وتوزيع التفاعيل على الأبيات. وهذا هو ما دعاني إلى القول بأنّ قصيدة (الكوليرا) لا تعدو كونها موشّحاً. أما قصيدتي (هل كان حبّاً) فإنّ كل مقطع من مقاطعها يختلف عن بقية المقاطع من حيث ترتيب القوافي، ومن حيث توزيع التفاعيل على الأبيات. وهذا ما أفهمه من (التحرّر من القافية، إذ أنني لم أكتب حتى الآن قصيدة غير مقفاة)(2).
ومن الملاحظات الجديرة بالالتفات إليها، أنّ في القصيدة أبياتاً شعرية تامّة ومصرّعة، وفقاً لما هو متعارف في عروض الشعر التقليديّ، مثل:
«هل تُسمّيـنَ الـذي ألـقى هـيــامـا؟/ أَمْ جـنـونـــاً بالأمـانـي، أم غـرامــا؟
عن سمـاءٍ ليس تسقينـي، إذا مـا؟/ جـئـتُـهــا مـسْـتـسـقـيــاً، إلّا أوامــــا
جفّتِ الأقداحُ في أيدي صحابي/ دون أنْ يَحْظَـيـنَ حتّى بالـحُـبـابِ
كـلّـمــا نــادى أتـــاهُ الـسَّــاقــيــــانِ/ بـالـطِّـلــى آنـــاً وآنــــاً بـالأغـــانـــي؟
أيُّ ثـغــرٍ مَـسَّ هـاتـيـك الشِّـفـاهــا/ سـاكـبـاً شـكـواهُ آهـاً... ثـمَّ آهــا؟»
وملاحظة أخرى هي أنّ السيّاب لم يكرّر هذه المحاولة التي كتبها أواخر 1946، فلم يكتب طيلة عام 1947 إلّا المقطّعات مثل (أهواء) و(سجين)، فضلاً عن أنه لم يكتب قصائد حرّة إلّا في أوائل عام 1948، ولعلّ هذا يؤشّر إلى أنّها كانت مجرّد تجريب عابر، وأنّ السيّاب لمّا يثقْ بعدُ بترسيخ وتأصيل هذه التجربة.
وما يزيد الغرابة أكثر هو أنّ هناك نقلة كبيرة ما بين (هل كان حبّاً) و(أساطير) أول قصيدة حرّة ناضجة ينظمها السيّاب في 24ــ 3ــ 1948، ومنها:
«أَساطيرُ من حشرجاتِ الزمانْ
نسيجُ اليدُ الباليةْ،
رواها ظلامٌ من الهاويةْ
وغنّي بها ميّتانْ.
أَساطيرُ كالبيدِ، ماجَ السَّرابْ
عليها، وشقَّتْ بقايا شهابْ،
وأبصرتُ فيها بريقَ النُّضارْ
يُلاقي سدى من ظِلالِ الرَّغيفْ
وأَبصرتُني والسِّتارُ الكثيفْ
يُواريكِ عنّي فضاعَ انتظارْ
وخابتْ مُنىً، وانتهى عاشقانْ».
ولا ندري هل كانت هناك مسوّدات تجارب أتلفها السيّاب، أمّ أنّ أمراً ما حصل مطلع عام 1948 وفتحَ عليه وعلى أترابه بهذا الفتح الشعريّ الجديد!.
والأرجح أنّ المسوّدة الأصلية لهذه القصيدة وأخواتها من الشعر الحرّ اللواتي نُشرن في ديوان (أساطير) عام 1950، كانت صورة بدائية غير هذه الصورة التي نعرفها، وربّما لذلك لم يُعد السيّاب طباعة هذه المجموعة رغم أنّ طبعتها الأولى نادرة الوجود؛ فهي طبعة محلية لم توزّع خارج العراق، فضلاً عن رداءة الطبع وكثرة الأخطاء المطبعية. والذي نعرفه اليوم عن قصائد الشعر الحرّ التسع المنشورات في المجموعة، صورتهنّ المعدّلة والمنشورة في مجموعة (أزهار وأساطير) الصادرة أوائل الستينيات في بيروت.
وعلى ذلك، تكون قصيدة (أساطير) هي أول قصيدة حرّة كتبها السيّاب، وتوالت بعدها القصائد الأخرى تباعاً، وهنّ بحسب التواريخ المذيّلة:
أساطير، 24 ــ 3 ــ 1948.
سراب، 27 ــ 3 ــ 1948.
اتبعيني، 21 ــ 4 ــ 1948.
نهاية، 26 ــ 5 ــ 1948.
في القرية الظلماء، 20 ــ 6 ــ 1948.
أغنية قديمة، 20 ــ 7 ــ 1948.
في ليالي الخريف الحزين، 17 ــ 9 ــ 1948.
في السوق القديم، 3 ــ 11 ــ 1948.
اللقاء الأخير، 1948، د.ت.
أما بحسب النشر، فذكر السيّاب أنّه نشر خمس قصائد حرة في الصحف البغدادية والنجفية قبل صدور ديوانه (أساطير) عام 1950، ولكنّنا لا نعرف أيّها كانت الأولى نشراً، غير أنّ (ك.ج) ذكر في مقاله (حول الشعر الحرّ) أنّها قصيدة (في السوق القديم): (المحاولة الجدّية في الشعر الحرّ الأولى من نوعها هي للأستاذ الشاعر بدر شاكر السيّاب، وذلك باكتشافه قدرة البحر (الكامل) الهائلة على ملاءمة التحرّر، بقصيدته (السوق القديم) المنشورة في جريدة (النفير) البغدادية في تشرين الثاني عام 1948)(3).
ولا يبدو منطقيّاً أنّ السيّاب كتب القصيدة في 3ــ 11ــ 1948، وينشرها فوراً دون مراجعة وتعديل، لا سيّما وأنّ الشعر الحرّ في بداياته، والذي هو أقرب إلى الواقع، أنّ هذا التاريخ هو تاريخ التعديل الأخير أو النشر في الجريدة، وليس تاريخ كتابتها، خصوصاً أنّها نشرت في (أساطير) مذيّلةّ بالسنة فقط دون الشهر واليوم، وإنما أثبتهما السيّاب حين نشر مجموعته (أزهار وأساطير)، ويدعم ذلك أنّ أقرب قصيدة إليها في المستوى الفنيّ (اللقاء الأخير) مؤرخة 1948 دون تحديد الشهر واليوم أيضاً، ولعلّهما أنضج قصيدتين حرّتين في المجموعة، وقمة ما وصل إليه السيّاب آنذاك.
الهوامش:
مجلة الآداب، العدد 7، تموز 1954، ص57.
مجلة الآداب، العدد 8، آب 1954، ص60.
مجلة الآداب، العدد 7، نيسان 1954، ص69.