السياب الذي قال: وداعاً ولم يرحل

ثقافة 2023/12/24
...

  د. علي حداد


وداعا ياصحابي، يا أحبائي

إذا ما شئتموا أن تذكروني

 فاذكروني ذات قمراء

وإلا فهو محض اسم تبدد بين أسماء

                                                                                     (السياب)

  نبوءة الكلمة حصة للأنبياء، وللشعراء بعدهم، وإن بدت مختلفة المصدر، إذ هي عند الأنبياء (وحي يوحى)، أما عند الشعراء فمما يوحون به هم لأنفسهم، عبر ما تستشرفه رؤاهم ومواقفهم وتحسساتهم الشعورية. ولأنها كذلك فهي قد تصدق عندهم في أحوال، ويجانبها ذلك في أحوال سواها.

وللنبوءة عند (السياب) ـ كما عند غيره من الشعراء ـ رؤاها التي قالت بعضها فأيدتها الوقائع بعدها، ورددت أخرى فما كان لها في كنف التحقق ما يؤيدها.

منذ أن استقرى السياب مصائر ما حوله ومظاهر بثها الاجتماعي والسياسي ـ تلك التي كانت تماحك وجوده فيطمئن إليها حيناً، ويعايشها بقلق وعي وتجاذبات ذات في أحايين أخرى ـ فقد كان دائب الكد كي يضعها بين يدي مدركاته الشعرية ـ بمثاقفتها العالية وتحسساتها الفياضة ـ ملتاذة بنزوع غامر من التأمل وتهامي (الخيال) الذي لايحده مدى، ذاك الذي دعاه السياب مرة أن يواصل نفث زلزاله في دمه:

لأكتب قبل موتي ، أو جنوني، 

أو ضمور يدي من الإعياء،

خوالج كل نفسي ، ذكرياتي، كل أحلامي 

وأوهامي

وأسفح نفسي الثكلى على الورق 

( المعول الحجري1/ 702)

و(الخيال) ـ عند السياب أكثر من أي شاعر آخر ـ عدّة لأحلام يقظة ومرتسم تأملات بعيدة الإدلال، كانت كثيراً ما تنداح بالذي بين يديها لتستشرف به الآتي، وتشير بأصابع مراميها إليه ، فتستحيل تفوهاتها (نبوءة) تصدق هنا ، وتنكفئ على ما تدعيه هناك.

لقد كان للسياب من خصيب المخيلة وعميق التأمل ما استرشد به في مقولات شعرية تخصه وحده. ألم يستنطق الراهن العراقي ـ بوقائعه التي عايشها ـ نحو استشراف آت صدق وعده بعده:

 ـ وكل عام حين يعشب الثرى نجوع

مامرّ عام والعراق ليس فيه جوع.

(أنشودة المطر، 1/479)

ويهتف بالعراقيين محذراً إياهم مما سيؤول إليه أمر بلدهم:

يا أخوتي المتناثرين من الجنوب إلى الشمال

بين المعابر والسهول، وبين عالية الجبال

أبناء شعبي في قراه، وفي مدائنه الحبيبة

لاتكفروا نعم العراق

خير البلاد سكنتموها بين خضراء وماء

الشمس ـ نور الله ـ تغمرها بصيف أوشتاء

لاتبتغوا عنها سواها

هي جنة ، فحذار من أفعى تدبّ على ثراها

(وصية من محتضر، 1/ 282)

العراق، الوطن الذي طالما تغنى السياب به، وأدرج وجوده ـ حياً أو ميتاً- في كنف حنينه إليه:

ـ إن متّ ياوطني فقبر في مقابرك الكئيبة

أقصى مناي، وإن سلمت فإن كوخاً في الحقول 

هو ما أريد من الحياة. فدى صحاراك الرحيبة

أرياض لندن والدروب ، ولا أصابتك المصيبة 

(وصية من محتضر، 1/ 282) 

وفي لحظة من انثيالات مايخصه ـ متعلقاً بحال عائلته بعده ـ يكتب، وهو في أشد مكابدات مرضه وغربته:

 وسيرمون غداً بنتيه وزوجته دربا

وفتاه الطفل إذا لم يدفع متراكم إيجار  

(عكاز في الجحيم، 1/ 693)

ليس مالم يتحقق من (نبوءات) السياب ومستشرفات الغد عنده ، بالقليل. لقد قال مرة ـ جاعلاً من قريته (جيكور) مكتنز ما يتمناه لوطن بأكمله :

جيكور... ستولد جيكور

النَور سيورق والنُور

جيكور ستولد من جرحي

من غصة موتي من ناري

سيفيض البيدر بالقمح

والجرن سيضحك للصبح 

(تموز جيكور، 1/411)

وكان ـ في قصيدته الخالدة (أنشودة المطر) ـ قد كرر مفردة المطر ـ حتى ظنّ أنه سينهمر فعلاً ـ  ليختمها بعبارة: (... ويهطل المطر). وما كانت تلك إلا لجّة انتماء من السياب لوطنه الذي لم يشهد بعده مثل ذلك المطر الذي تمناه له.

    وتبقى (النبوءة) الأكثر إثارة ومخالفة لظنون السياب تلك التي قالها ملوحاً بيد الغياب الأبدي: «وداعا ياصحابي، يا أحبائي»، ظاناً أن اسمه سيمسي «محض اسم تبدد بين أسماء». فلم يغادرنا من السياب إلا جسده الذي أخذ معه همومه وأوجاعه وخيباته، وغير ذلك فقد بقي الكثير منه الذي مازال حياً بيننا.

 لقد غادر ـ مع السياب وبعده ـ كثير من شعراء جيله، وأمحى ذكر معظمهم، وما عاد لمنجزهم إلا ما دوّن منه في أرشيف التوثيق التاريخي لمرحلته. ولوعدنا إلى سنوات الأربعينيات والخمسينيات ـ ومعهما الستينيات ـ ستجد قوائم متدافعة بأسماء شعراء ما عاد أحد يتذكرهم، فقد همست لهم ذاكرة الشعرية العراقية مودعة، تاركة إياهم خلفها، ممعنة بالتوجه نحو المستقبل الذي لايأبه إلا للتجارب الشعرية التي استوطنتها قيم التميزـ وعياً ورؤى وجماليات تشكل ـ ووحده السياب ـ ومعه القليل من الشعراء ـ الذي كان له ذلك البقاء الذي لايزول ولايؤول، وبما يجعل ذاكرة الخلود تردد معه:  

 لاتحزني إن متّ، أي باس

 أن يحطم الناي ، ويبقى لحنه حتى غدي

(الوصية ، 1/ 222)