لكي نرى الجديد جديداً
ياسين طه حافظ
ليس إثماً ولا خطأ أن يختزن أدبنا هذا الكم الطافح من التذمر والشكاوى والاستياء وبكثر الناس منه، فوراء ذلك تاريخ طويل من العيش السيئ والحياة السيئة خبزاً وتعاملا وأحوال ضنك وايذاء، ولافتقاد الحرية تاريخ طويل هو تاريخ الإنسان.. ولا عجب أيضاً أن يجد الفرد الشاعر في مدى الطفولة مهرباً أو مساحة ابهاج هي متخيلة في أغلب الاحيان، المهم أنه يجد ملاذا مما يؤذي أو يحرج أو يخيف.
لم تبق الأسباب هي، هي. لقد تطورت بدلاً من أن تخفى. كثير من «أنواع» الكدر اليوم في علاقاتنا الاجتماعية. ويصلنا الكدر أيضاً من عالمنا الخارجي ومواقع عيشنا. فنحن نهرب من سوء إلى سوء ومن شجن إلى شجن. نادر دائماً هو الفرح.. ظل الحل الأقرب والأسهل والمتاح هو أن نعود أطفالاً أو صِبْية لنجد راحة في طفولتنا مما في نضجنا. لا فردوس هناك، ولكن هناك فرصة للابتعاد عن الهم وفرصة للعب بدلاً من المواجهات القاسية. حقيقة الأمر أن الأطفال والصبيان الذين كانوا، لم يكونوا سعداء كما نظن، غالباً لم يكونوا كذلك. ولكن لا وعيهم بما كان حولهم وانشغال سواهم، آباء وأولياء أمر، بمواجهة حقائق عالمهم وتحملهم منغصات العيش وكسب الخبز ضمن علاقات اجتماعية متخلفة ليست دائماً مقنعة.
نحن هنا، لا ندعو للكف عن مراح الطفولة والتوقف عن الكتابة أو التعبير عنه. فهم، الكبار الآن يتمنون الهرب إلى زمن لم يكونوا يواجهون متاعبهم مباشرة، كان غيرهم يصد هذه المزعجات، وأن كانت واجهتهم، فمنذ زمان ولّى. لسنا ابداً ضد حضوره. نحن في حال التساؤل: في حاضر جديد بمضامينه المادية والفكرية، ومجتمعات جديدة في علاقتها واحتياجاتها، والتحولات الواضحة والكبيرة في الطبيعة والعالم، ومع الادراك الجديد والوعي، اليس وقتاً لموضوعات أخرى تزخر بالمضامين المستجدة المتزاحمة والادراكات الجديدة، والعلاقات الاجتماعية سريعة التحول ودائمة التغيير؟
إن قلقاً واسعاً جديداً، ومعقد الأسباب يسود العالم. ورصد الظروف والتحولات والقلق، أو عدم الاطمئنان من المتوقع، ليس سطحياً عابراً. هو مرتبط وذو صلة حميمة، ظهرت أو لم تظهر، بقلق الموت ومآلنا. نحن نخاف، نخشى إفتقاد السلامة. والخوف الأكبر اليوم، من صناعة السلاح والأمراض المستعصية وتهديد المناخ، كلها تعني الموت. ما الذي نطمح له، نتمناه؟ هل السعي بشتى الوسائل اجتماعية وفنية وعلمية للتخفيف منه؟ هل العمل على ضخّ مشاعر جديدة أكثر واقعية، أقل هلعاً، وعصرية علمية أكثر؟ علينا أولاً الاقرار برداءات الواقع. علينا أن نعرف لا يمر يوم إلا ونحس فيه بثلاثة انفعالات متكررة، مكدِّرة للعيش والسلوك والتفكير، وهي القلق والاكتئاب والغضب. وهي ثلاثية غير متناسقة. الثالث الذي هو رد فعل، ليس عقلانياً، ولكنه اختلال توازن نتاجُ شدةِ رفض. وهي ثلاثية معاصرة تماماً وتتجسد عقب قلق من المتوقع، مما يهدّد، وتكدّس أحزاناً تتحول بتفككها أو تراكمها أمراضاً. وهذه الأمراض تعالج بكسر «الوعي بالغضب» من ظروف العمل، من قلة الأجور، من كذب أو خسّة أرباب العمل، ومن شبكة العلاقات السياسية و»اندفاعات خريجيها» وإرباكات الحاضر وارباك المستقبل. ثمة ما يجب الانتباه له، لا ضمان من تزايد خطره. ابتعدنا كثيراً عن الجمال في الأرض إلى السوء وقبح ما نرى وتنوع ما يعترض. يأساً، أو بعداً عن اللاحل، نتوسل لتخفيف كل ذلك بالادوية والعقاقير. اضطراب في الادراك، واضطراب في المواجهة.
نحن لم نكتب عن هذا. نكتب عن ايحاءاته غير المباشرة بعد مسح قشرتها أو مباشرتها. تقول هو هذا الأدب. وأقول وهي هذه المشكلة. الكتابات غير المباشرة، حصيلة أو ناتج الايحاءات. كتابة كهذه غير مباشرة، تكون عادة مضللّة. نحن لا نرى الأوجاع، لا نرى تلف الحياة ولا معنى العيش. نحن نمنح قابلية استساغة وألفة ووجوداً قدرياً، أو نساعد على قبول ذلك. لا أحد يحمي سلامة العيش الجديد الذي أوجدته الحضارة. ولا أحد يعبّر بوضوح أكيد عنه. السوء بانواعه مستمر ولا مواجهة مباشرة نأمل منها بحسم أو ردع. وفي الأخير لا فضح لمدى تغلغل واتساع الشر وتطوره وهو قائم يبتزنا ويرغمنا على الخضوع والاستساغة. فهل يفيد السؤال ونقول عما يمكن تغييره وما لايمكن تغييره؟ لنرَ ونعيد السؤال عما تستطيع الكتابة والفنون فعله؟ الإنسان محق في الاستماتة لكي يبعد ما يهدد حياته، وهو أحياناً يموت ليسلم أو لتسلم عائدياته. هو أيضاً يقاتل لا ما يهدد سلامته، ولكن ما يهدد الانتقاص من عمره أو من حقوقه وأمنه. هذه طبعاً ذوات صلة بالخوف على الحياة أو القلق من الموت. كما لهذه صلة بالفرد. يرفدها بالمزيد العالم حوله، بيئة أو وجوداً. متعددة جهات الارباك أو الايذاء. منها ما يجب الاّننساه، يتعلق بالتطور وتحولات المجتمع والبيئة، واحتياجات العيش الجديد وضمانه. وهذه مهما بدت بعيدة غير مباشرة، هي غير بعيدة عن السلطات وأساليب الحكم وسلامة مبادئ العمل..
لنا اليوم في الرواية الحديثة، وبعض من الشعر الحديث، ما تبنّى هذا الاشكال بوعي فني- ثقافي. وهذا التبني يبرز مباشراً والموضوعة من دون تغطية أو تهرب، هي لم تكن من وراء سريان العيش اليومي ومرئيات الطبيعة.
كانت رواية القرن التاسع عشر تشغل مساحة واسعة، وأجرؤ على وصفها بأنها مادة روائية خام. بالنسبة للرواية الحديثة لاسيما الامريكية والفرنسية. هذه تلامس الاجزاء، ترصد التفاصيل، الزوايا الخاصة تحديداً، هذه خلاف تلك أقل سعةً، أقل شمولاً، ولكن أدق وأبعد نفاذاً. فنحن الآن نتابع أدق المشاعر والخصائص البشرية وتفاصيل الظرف والداخل الشخصيين. وأرى في هذا تحولاً في نظر الإنسان، وهو أصلاً تحول في الوعي وفي التقويم الحضاري إنسانياً. الإنسان هو المحور الأكثر اهتماماً به وبكل تفاصيل حياته وجسده وصغائره الجسدية واهتماماته.
في الشعر الغنائيات ما تزال مستقرة، تبدو بعد كل ما حدث، في غير زمانها. لكن حاجة المهتمين بالشعر ما تزال، ولم تتطور أدوات التعبير لسواها إلا لدى فئة، هي غالباً نخب ثقافية. ليس سهلاً انحسارها والحاجة قائمة لها. أيضاً القديم وعوالمه غذاء مستمر وبيئة دائمة، فنحن أقرب إلى مخزون الذاكرة مما نحن إلى الواقع اليومي غير المستقر، المتغير والطافح بالغرائب الطارئة.. عموماً هو هكذا الفن والشاغل المهم فيه هو الطارئ، الغريب يبنبثق من حيوية التقدم اليومي للمجتمعات. ففي الوقت الذي تكون فيه النصوص الشعريّة الجديدة أكثر استعاريّة، هي أكثر تشعباً في إيحاءاتها ويكون الشاعر أكثر اشتباكاً مع داخله هو ومع المتوارث والسائد. فلم تعد «الخامة» من نسيج واحد نقي، هي مختلفة المصادر مختلقة العلائق وغير مستقرة الأشكال. ما عادت الدهشة تأتي من الحدث، من الثيمة المركزية أو الخبر بلغة النحويين. هي كثيراً ما تكون من جزئياته، أيضاً. وهذا ما يمكن ملاحظته، من تركيب وتوالي التعابير. فلم تعد التعابير بسيطة متواضعة كما من قبل، للتعابير الآن حمولة متنوعة وخصبها في مدى تنوع حمولتها. الأدب الجديد أو الفن الجديد يحتاج إلى قراءة جديدة لكي لا نخسر ما فيه. واسمحوا لي أخيراً في القول: والحياة الجديدة تحتاج لأن تعاش بطريقة جديدة كي لا تخسر مذاقها ومعناها!