أحمد الشطري
يرجع ظهور اتجاه تيار الوعي (Stream of Consciousness) إلى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، خلال الحركة الأدبيّة الحداثيَّة، كرد فعل على البنية السردية الخطية التقليدية، والتي غالبا ما اتبعت ترتيبا زمنيا وقدمت منظورًا يتسم بالموضوعية. وقد سعى تيار الوعي إلى تحدي هذه الأعراف من خلال تقديم رواية ذاتية ومجزأة تعكس “الطبيعة الفوضوية للفكر الإنساني”.يستخدم اتجاه تيار الوعي أسلوبا سرديا يعتمد على تصوير التدفق المستمر للأفكار والمشاعر والأحاسيس التي تمر بها الشخصية، ويهدف إلى التقاط الأعمال الداخليّة للعقل البشري، وتقديم صورة أولية غير مفلترة لوعي الشخصيّة، وقد تمنح هذه التقنية المتلقي رؤية معمقة لطبيعة التفاعلات النفسيّة للشخصيّة، مما يوفر تجربة قرائيَّة ثرية وحميمة.
وتتميز روايات تيار الوعي بافتقارها إلى البنية السرديّة التقليديّة وتركيزها على الأفكار والتجارب الداخلية للشخصية، فهي غالبًا ما تستخدم تقنيات مثل المونولوج الداخلي والخطاب الحر غير المباشر والسرد المجزأ لنقل تيار وعي الشخصيّة.
وتعزى المحاولات المبكرة لانبثاق تيار الوعي إلى شخصيتين مختلفتين مكانا ومكانة، أحدهما الكاتب الروسي الشهير فيودور دوستويفسكي في روايته «ملاحظات من تحت الأرض» (1864)، والتي يستكشف فيها الأفكار والصراعات الداخلية لراوٍ لم يُذكر اسمه، مقدماً سرداً مجزأً واستبطانياً.
لقد مهد استكشاف دوستويفسكي للنفسيَّة البشريَّة الطريق لتطوير تيار الوعي كتقنية أدبيّة.
بينما تأتي رواية (Les Lauriers sont coupés) الصادرة عام 1888، للكاتب الفرنسي إدوارد دوجاردان المغمور، لتعد النموذج الثاني المبكر لهذا التيار، وقد استخدم دوجاردان هذه التقنية؛ لتصوير التدفق المستمر وغير المنقطع للأفكار والتأملات الداخلية للبطل، ومن دون استخدام علامات الترقيم التقليديّة أو فواصل الفقرات.
ومع ذلك، فإن الكاتب الأيرلندي جيمس جويس يعد أبرز من أشاع وأتقن استخدام تيار الوعي في روايته الرائدة “يوليسيس” 1922.
وتتبع رواية جويس أفكار وتجارب شخصيات مختلفة على مدار يوم واحد في دبلن، أيرلندا.
إذ يصور جويس تعقيد وتنوع الفكر البشريّ، ويمزج بسلاسة وجهات نظر مختلفة وأساليب سردية متنوعة.
كما يعتبر الأمريكي ويليام فوكنر واحدا من الشّخصيات المؤثرة في تطور تيار الوعي، فقد استخدم في روايته “الصخب والغضب” 1929 عدة رواة، لكل منهم تيار وعي خاص به، وهو ما يتيح للقراء اكتساب فهم أعمق لدوافع الشّخصيات ومخاوفها ورغباتها.
وبالإضافة إلى هؤلاء فقد كانت روايات (البحث عن الزمن الضائع) لمارسيل بروست، و(الحج) لدورثي رتشاردسون، و(ليل ونهار) لفرجينيا وولف وغيرها نماذجا مضيئة في روايات هذا التيار، كما تعد روايات (اللص والكلاب وثرثرة فوق النيل) لنجيب محفوظ و(البحث عن وليد مسعود) لجبرا ابراهيم جبرا و(كانت السماء زرقاء) لإسماعيل فهد إسماعيل على سبيل المثال من النماذج العربيَّة التي تأثرت بتيار الوعي.
ترتكز تقنية تيار الوعي على جملة من الخصائص التي تميزها عن غيرها من التقنيات من بينها:
1 - التركيز على الاستبطان والتأمل الذاتي: إذ تعد هذه الخاصية من الخصائص الرئيسية لروايات تيار الوعي.
والتي يتعمق من خلالها المؤلفون في التفاعلات النفسيّة لشخصياتهم، ويستكشفون أعمق أفكارهم ورغباتهم ومخاوفهم وذكرياتهم، وغالبًا ما يتبع السرد شكل تيار مستمر من الأفكار، مع القليل من الحوار أو الفعل الخارجي أو عدم وجوده على الإطلاق، وقد يتيح هذا النهج الاستبطاني للمتلقي اكتساب فهم عميق لدوافع الشخصيّة وصراعاتها وحالاتها العاطفية.
2 - غالبًا ما يكون لسرديات تيار الوعي بنية مجزأة وترابطية، فبدلاً من اتباع تسلسل خطي وتسلسل زمني، يقفز السرد من فكرة إلى أخرى، مما يعكس الطبيعة غير الخطية لعمليات التفكير البشري كما يراه أصحاب هذا التيار، حيث يمكن للأفكار والذكريات أن تنشأ بشكل عفوي وبدون نظام واضح.
وقد يتضمن السرد أيضًا تحولات مفاجئة في الزمان والمكان والمنظور، مما يزيد من تعزيز الشعور بالارتباك والانغماس في وعي الشخصية.
3 - من الخصائص الأخرى لسرديات تيار الوعي هي استخدام الديالوج والمونولوج الداخلي.
إذ يصور الديالوج المحادثات الداخلية للشخصيّة مع نفسها، حيث تتفاعل الأفكار والأصوات المختلفة وتتناقش داخل ذهنه، ومن ناحية أخرى، يتضمن المونولوج الداخلي مخاطبة الشخصية المباشرة للقارئ، والكشف عن أفكارها وعواطفها وتأملاتها، وهذا ما يوفر لمحة عن العالم الداخلي للشخصيّة، وطبيعة صراعاتها الداخليّة وشكوكها وتحليلها الذاتي.
4 - تركز روايات تيار الوعي أيضًا على التقاط التجارب والتصورات الحسية للشخصيَّة.
إذ غالبًا ما يتضمن السرد أوصافًا حية للمشاهد والأصوات والروائح والأذواق والأحاسيس اللمسية، مما يغمر القارئ في العالم الحسي للشخصية، كما تساعد هذه التفاصيل الحسية دفع المتلقي للشعور كما لو أنه يختبر العالم بشكل مباشر من خلال حواس الشخصية، ومن ثم تسهم في خلق الإحساس القوي بالواقعية والفورية في رواية القصص.
5 - ومن الجوانب الأساسية لسرديات تيار الوعي هي الانثيالات الذاتية والداخلية.
إذ تتيح هذه التقنية للمؤلفين استكشاف الطبيعة الذاتية للتجربة الإنسانية، وتسليط الضوء على وجهات النظر المختلفة لكل شخصية، ومن خلال الخوض في الأفكار والعواطف الداخلية للشخصية، تكشف روايات تيار الوعي تعقيدات وتناقضات الوعي البشري.
هذا التركيز على الذاتية يتحدى فكرة الواقع الموضوعي ويدعو القراء إلى التشكيك في تصوراتهم وفهمهم للعالم.
6 - غالبًا ما تسعى روايات تيار الوعي إلى تصوير تعقيدات علم النفس البشريّ وتعقيدات العقل البشريّ من خلال الخوض في أفكار الشخصية وعواطفها وذكرياتها، مما يسمح للمتلقي بالتواصل مع الشخصيات على مستوى أعمق يمكنه من اكتشاف طبيعة التجارب والعواطف العالمية التي تم تصويرها في
السرد.
لم يقتصر تأثير تيار الوعي عل الأدب فحسب بل شملت تأثيراته مختلف الفنون كذلك، فقد قام الرسامون الذين تأثروا بتقنيات هذا التيار في السرد، بدمج تقنيات مماثلة في أعمالهم في الفنون البصرية، إذ جربوا « تركيبات مجزأة وغير خطية كما هي الحال في أسلوب السرد، وقد سعوا إلى التقاط الطبيعة العابرة والذاتية للإدراك البشري من خلال التقنيات المجردة والانطباعية،» وهذا ما يمكن ملاحظته في أعمال سلفادور دالي وبابلو بيكاسو مثلا، حيث قاموا بإنشاء أعمال فنية تتحدى التمثيلات التقليديّة، وتدعو المشاهدين لاستكشاف أعماق عقولهم.
وفي الموسيقى، استوحى الملحنون أيضا الإلهام من روايات تيار الوعي لإنشاء مؤلفات تعكس مد وجزر الفكر والعواطف، “وقد جربوا الهياكل غير التقليدية والتنافر والارتجال لالتقاط جوهر الوعي البشريّ.
كما يظهر ذلك في أعمال بعض الملحنين مثل إيجور سترافينسكي وأرنولد شوينبيرج”.