فلاسفة الميديا الجدد.. هل أصبحت الفلسفة موضة العصر؟

ثقافة 2023/12/27
...

ذي قار: صفاء ذياب

لم تتوقف الصرعات الثقافيَّة عراقياً، أو عربياً، عند حدٍّ معيّن، بل نعيش مع كلِّ عقد جديد صرعة جديدة تأخذ ردحاً من الزمن، يتفاعل الناس معها، وتبدأ تغيّر من طريقة حياتهم، حتَّى تبدأ بالخفوت، ومن ثمَّ تبرز صرعة أخرى نعيشها بتفاصيلها كلّها، في مرحلة أخرى.
فمنذ ثلاثينيات القرن الماضي، كان هناك ما عُرف حينها بالتنوير، على الرغم من تأخّرنا في التأثّر به، ففي الوقت الذي انطلق فيه في سبعينيات القرن التاسع عشر في حلب بسوريا وطرابلس بلبنان والقاهرة والإسكندرية في مصر، كنّا غائبين عن هذه التحوّلات التي طرأت على حياة جيراننا، حتَّى بدأنا نعي ذلك على يد الزهاوي والرصافي زمناً قصيراً، لتبدأ أزمات بناء الدولة وما تبعها من تحوّلات.

وإذا أردنا أن نقف عند الصرعات الثقافية الحقيقية، فلا نجد أكثر من الوجودية في خمسينيات القرن العشرين، وما تبعها من حركات ثقافية وفنية غيّرت من شأن الثقافة العراقية... غير أنَّ تلك الصرعات أو البنى الثقافية كانت مبنية على أسس علمية، أنتجها فلاسفة، ليس أولهم سارتر، ولا آخرهم كولن ولسون، وغيرهما.
إلاَّ أنَّ ما يحدث في زمن الميديا والتواصل الاجتماعي أنَّ هناك صرعات أخرى، بدأت بالرواية، حتَّى عُدَّ ديستويفسكي من الروائيين الذين أعيد اكتشافهم من جديد، فضلاً عن كتابات نيتشه، غير أنّنا نواجه حالياً مرحلة أخرى، وهو ظهور متحدّثين بالفلسفة، يسعون لتقديمها على طبق من السطحية والسذاجة، وكأنَّها مطيّة العصر الجديد.. إلى درجة أنَّهم يؤلفون كتباً لا تعرف مرجعياتها، ويدعون من قبل مؤتمرات عربية للحديث عن تجربتهم وقراءاتهم الفلسفية، من دون أن يكون لديهم أدنى معرفة حقيقية بها...
فهل تراجع دور الفيلسوف أو الباحث في الفلسفة مقابل الفاشنستا والبلوكر، وما الذي أدى إلى بروزهم على الواجهة بمقالات لا علاقة لها بفن التفكير، أو دعوتهم لمؤتمرات فلسفية لمجرد أنَّهم مشهورون؟
أفكار متناقضة
يؤكّد الدكتور علي المرهج أنّه لم يكن هناك دور فاعل للفيلسوف في ما سبق حتَّى نقول إنّه تراجع في زمن الفاشنيستا.. كما أنّه لم يكن للفلسفة والفيلسوف تأثير كبير في الحياة الاجتماعية المباشرة للناس في الزمن الكلاسيكي بقدر ما كان خطاباً نخبوياً قد تظهر تأثيراته في بناء الفكر والمجتمع لاحقاً، أي في مجتمع مستقبلي.. فلم تكن فلسفة الفارابي على سبيل المثال مؤثرة في المجتمع الذي كان يعيش فيه ولا الفلاسفة الذين جاؤوا بعده، قد يكون سقراط فاعلاً في الحياة العامة للناس، ولكنه مع ذلك حُكم عليه بالإعدام..
أن يبرز اليوم بعض المتحدّثين في الفلسفة ويجدون لهم حضوراً في وسائل التواصل الاجتماعي هذا أمر قد يبدو ضاراً في ما نعرفه عن شرفية الفلسفة النظرية، ولكنّه في الوقت نفسه قد يُقرب بعض الناس للفلسفة والسعي لمعرفة أهميتها.
في الأحوال كلّها، إنَّ دور من يتحدث في الفلسفة وقضاياها ويعمل على توكيد أهميتها في اليومي والمعاش لا يشبه في أيِّ حال من الأحوال ما تُقدّمه الفاشنستات ولا البلوكرات كما يُقال، لأنَّ الأول يدعو لتقريب الخطاب الفلسفي من المجتمع والناس، والثاني يمارس دور التغبية والتعمية على هذا الدور.
أن نعترض على من يقدّم القضايا الفلسفية بأسلوب مبسّط قد يفقدها بعض صرامتها لا يعني أنَّه يُشارك في تخريب مقاصد القول الفلسفي. فالفلسفة تبقى عصية على الفهم إن بقي الفلاسفة كما يقال في برجهم العاجي. نحتاج لمؤسّسات ثقافية وأكاديمية تدعمها الدولة لتكون ظهيراً لمن يتصدّى لنشر القول الفلسفي في الفضاء العام والكشف عن قيمته الجمالية ونقده إن كان فيه خروج عن مقتضيات هذا القول في الحفاظ على استقلالية القول الفلسفي ونزعته النقدية.
أتفق أنَّ شهرة البعض في نشرهم مقالات فلسفية أو تحدّثهم في وسائل التواصل الاجتماعي لا يعني أنَّهم يفقهون الفلسفة وتاريخها النقدي بقدر ما يقتنص فكرة من هذا الكاتب المعروف في عطائه الفلسفي أو ذاك ليملؤوا مقالاتهم وما ينشرونه من فيديوات بأقوال تبدو متناقضة أحياناً لأنَّها مأخوذة من كُتّاب لهم توجّهات فكرية متناقضة.
فيلسوف الزور
ويشير الدكتور علي عبود المحمداوي إلى أنَّ وسائل التواصل الاجتماعي تؤدّي دوراً خطيراً على صعيد التسطيح والبلاهة والاستهلاك المفرط للصور والمعلومات، بغضِّ النظر عن معيارية الحقيقة.
عالم اليوم المليء بالصور المصطنعة لم يزد الطين إلَّا بلّة حتّى وصل الأمر إلى الفلسفة التي تُعدُّ أعلى مستويات التفكير الناقد والفاحص لتجرّد هذه الوسائل من جدّيتها ومنهجها، ولتصبح سلعة بيد من يريد التحلّي والادعاء والتلوّن بصبغة الفيلسوف.
ونتيجةً لذلك أصبح الادعاء بالتفلسف موضة لمن هو أبعد ما يكون أصلاً عن الفلسفة، وأتاح الأمر كثرة ضخ المعلومات الزائفة ورواج العلوم الزائفة لكثرة مريديها ومدّعي الشهادات والتخصّص.
الفاشينيستا والبلوكرات بمختلف صورهم في وسائل التواصل أصبحوا يقرّرون الكثير ممَّا يسمّى حقيقةً ويقلبون الطاولة على كلِّ ما يجب أن يكون بمعيار كمّي يحدّده عدد المتابعين أو المريدين الإلكترونيين، وهذا ما ساهم في ديمومة علو كعب البعض على الفيلسوف الحقيقي ليتصدّر المشهد ما يسمى بفيلسوف الزور والميديا.
وما سبق هو جزء من طبيعة تنامي الوضع الاستهلاكي الرأسمالي الذي بدأ يتغوّل إلى مرحلة الاستهلاك الصوري المفرط الذي هيمن على ما يسمّى بالسيمولاكرا، وحوّل وقائعنا كلّها إلى صور شبحية بلا مرجعية حقيقية.
 نظام الرثاثة
ويصف الدكتور حيدر دوشي هذا الإلحاح في الحاجة إلى الفلسفة في العراق والعالم العربي بعقدة (ألكترا)، فهو ظاهر في ما ينثر من كتابات (الصفحات الثقافية) للصحف والمجلات ومداخل الكتب وخواتيمها، بل قد خصّصت له كتب ومؤتمرات قائمة برأسها. مترافقاً مع الإحساس بغياب القول الفلسفي العراقي والعربي الأصيل والمتسق مع نفسه.
إنَّ شريحة من ذوي البساطة الفكرية تسيّدت الفضاء العام بإدمانها التواجد في وسائل التواصل الاجتماعي، رأت في الفلسفة ترفاً فكرياً لا ضرر من الأخذ به إن تيسّر ذلك أو إكسسواراً لابدَّ من الإلمام به ظنَّاً في نفسها القدرة على سدِّ حاجة الفكر العراقي والعربي إلى غياب الفلسفة. فخرجت علينا بفيض من الطروحات ذات العناوين الفلسفية وبخيارات مزاجية سعياً وراء آخر الصيحات الفكرية في الغرب، لو فحصت لوجدناها، لا تعدو أن تكون تبسيطاً لمذاهب فكرية قائمة في بلاد المنشأ، أو ترويجاً لها. أو هي تعليقات شخصية، أو هوامش على متون غائمة في عقول كاتبيها. أريد لها أن تكون معاصرة برطانة عن الحداثة وما بعد الحداثة ونهاية التاريخ وموت الفلسفة، إلى ما هنالك من شعارات وكليشيهات جاهزة، ولا يكتفون بذلك، بل يرون أنَّها الحلول لمشكلات واقعنا.
في حين أنَّ ما ينتج عن هذه هو تدهور في متطلّبات الجودة، وغياب الرؤية، وتهشّم في منظومة القيم الثقافية، وبروز الذوق الرديء، وابتعاد ذوي الكفاءة، فتخلو الساحة من التحديات التي هي أحد الأسباب المهمة في بروز الأفكار المبدعة. ويجعل المجتمعات تكافئ الرداءة عوضاً عن السعي لإيجاد الجدّية والجودة. إنَّ ما يبدو فوضى في أماكن متناثرة، هو في الواقع نظام من الرثاثة الفكرية التي تمدُّ جذورها في المجتمعات بزحف مرعب.
 جوهر الفلسفة
وبحسب الدكتور مؤيد الأعاجيبي، تُعَدُّ الفلسفة أحد العلوم التي تستهدف فهم الوجود وطبيعة الحياة من خلال التأمّل والتساؤل العميق. ينصبُّ هدفها في تحديد رؤية للحياة الجيدة التي ينبغي للإنسان أن يسعى لتحقيقها، وذلك من خلال التفكير النقدي والتطوُّر المستمر في مستوى المعرفة. يُعَدُّ هذا الانخراط في التفكير العميق والتحليل الفلسفي إنجازاً بحدِّ ذاته، تاريخيّاً منذ العصور اليونانية، مروراً بفترة النهضة، وصولاً إلى القرن العشرين.
وقد منح للفلسفة لقب “موضة العصر” في العصر الحديث نظراً لشهرتها وتأثيرها الكبير في الفكر والمجتمع. أمَّا اليوم فأصبح العكس، إذ أصبح بإمكان الأفراد الوصول إلى الشهرة الفلسفية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. يحظى هؤلاء الأفراد، المعروفون بالبلوكرات، بجماهير ضخمة، مستغلين إمكانيات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. لكنَّ الأمر اللافت هو أنَّ هؤلاء يظهرون في توجّه غير مألوف، إذ يصبحون متصدّين للفلسفة بليلة وضحاها برغم عدم تخصّصهم في هذا المجال. وهو ما أدّى إلى تراجع مكانة الفلسفة في المجتمع بنظر المتخصّصين فيها، إذ يُبرَز- الفاشنيستيون- بنشر محتوى فيديو سطحي حول الفلسفة، يقلّل من قيمتها الفكرية والنقدية، ويقترب من تقديمها كموضوع يُفاخرون به بدون أن يتسنّى لهم فهم جوهرها. تتسارع هذه الظاهرة بفعل تسليط الضوء على الفلسفة بشكل غير عميق ومبتذل، إذ يعتقد جمهورهم أنَّ هذه الأفكار البسيطة هي جوهر الفلسفة!! ما يؤدّي إلى تقييمها بشكل سلبي بدون توجيه نظرة نقدية مستنيرة.
 ويبيّن الدكتور رائد جبار كاظم أنَّه في كلِّ فن أو مجال يتقن صاحبه الخطاب البياني والأسلوب الإنشائي لا العلمي ولا التخصّص الأكاديمي الدقيق، احتمالية صعوده وسطوع نجمه في سماء ذلك المجال أمر وارد جداً، ولكن بنسب ضئيلة، حسب الظروف التي تمنحه تلك الشهرة، لكنَّ المتتبّع لتلك الفئة في المجتمع وذلك النمط من أنصاف المثقفين يجدهم يتطفّلون في تخصّصات مختلفة لا علاقة لهم بها ولا هم من ذوي التخصّص العام أو الدقيق في ذلك العلم أو الحقل الذي يكتبون أو يتكلمون فيه ومنه الفلسفة، إذ إنَّنا اليوم نجد أشخاصاً يكتبون ويتكلمون ويحاورون بالفلسفة ويخوضون غمارها في الندوات والمؤتمرات والمقالات بدون أيّ شهادة أو تحصيل علمي يؤهّل ذلك الشخص لخوض ذلك الغمار، الأمر الذي يجعل صاحبه يقع في الفخ منذ أوّل لقاء أو تقويم من قبل المتخصّصين في هذا المجال، ويعتقد ذلك الشخص أنَّه أتى بفصل المقال في ذلك المجال، ولا أحمّل ذلك الشخص المسؤولية وحدها، بل يتحمّلها الجميع، من متخصّصين ونقّاد وقرّاء، لأنَّ شيوع مثل تلك الظاهرة أمر يستحق الوقوف عنده وتقييمه، وبيان حسناته من سيئاته، ولا نرفض ذلك المتطفّل فقط، بل نعمل على تقدير من يجتهد ويجيد البحث والكتابة والقول في هذا المجال من خارج التخصّص ممّن تتوفّر فيه سمات الكاتب والباحث المجتهد الذي يرغب في تثقيف نفسه ثقافة صادقة تضعه في مصاف المثقفين المخلصين في بحثهم العلمي الأمين.
كما أنَّ عزوف المتخصّصين عن الكتابة والغياب الدائم في مجال تخصّصهم يلقي باللوم عليهم لأنَّهم تركوا الساحة فارغة وتخلّوا عن دورهم الأساس في الحضور الفكري والثقافي، ما جعل الآخرين من غير المتخصّصين يشغلون الفراغ ويملؤون الساحة بما يمتلكون من أدوات وجرأة، ولكنَّ الشيء الذي نخافه هو اتساع تلك الدائرة وتحوّلها إلى موضة تحرمنا من متعة التخصص والبحث العلمي الرصين.
 أسمال الفيلسوف
ويختتم الباحث صلاح محسن حديثنا بقوله إنَّ القرن العشرين شهد ازدهاراً قلَّ نظيره للتيّارات والمذاهب الفلسفية، في فرنسا؛ موطن الموضة والأزياء، كانت الأوساط الثقافية والفكرية تتزيَّا بأحدث صرخات الموضة الخاصّة بها أيضاً، من الماركسية إلى الوجودية إلى البنيوية.. إلخ، فحتّى الجاكيت التي يرتديها هايدغر هي من تصميم أبيلوده، كان غادمير يقول كنَّا نسميها الجاكيت الوجودية، وظهرت طبقة من طلبته يقلّدونه حتّى في سعاله؟ طبعاً لا أنفي أنَّ هذه التيارات وليدة شروط اجتماعية وتاريخية كانت سبباً في ظهورها، من الاحتدام والصراع الأيديولوجي والحرب الباردة التي كانت أهم جبهاتها الجبهة الثقافية. وعلى الرغم من أهمية الفلسفة في تنشيط ونشر الوعي، ونشر ثقافة التفكير النقدي، لكنَّها ليست عصا سحرية وترياقاً شافياً لأزمة هذا العصر، وسط جهل مطبق للثقافة العلمية والذكاء الاصطناعي والثورة الصناعية الرابعة والمستقبليات والتقنيات التي تؤثّر في حياتنا تأثيراً مباشراً... لدينا “فقر دم” واضح في الثقافة العلمية. من جهة أخرى أنا مع تسهيل الفلسفة ونشرها، لكن من دون الإساءة إلى جوهرها، الكل يطالب بالتبسيط، وهو يعلم أنَّ معرفته بالحساب وجمع الأرقام يختلف تماماً عن معادلات الرياضيات العليا وتعقيداتها الحسابية، لماذا لا يطلب من الرياضيين الشيء نفسه؟ عصر البلوكر الفلسفي علامة أفول للمجلّات الجادّة والجريدة الورقية التي كانت سابقاً الطريق الملكي والمصيدة المثلى للقرّاء الممكنين، وشكلاً من أشكال شعوذات التنمية البشرية يتزيّا بأسمال الفيلسوف. أمَّا من يدّعي وصلاً بها يدرك أنَّها إكسسوار ثقافي لامع وباهر، لكنَّه يهرب عند الوصول إلى أعقد أجزائها.