فوبيا الخطاط

ثقافة 2023/12/27
...

مرتضى الجصاني

ربّما الخطّ من الفنون التي شهدت تسارعاً في التجديد والابتكار والإبداع حتى بداية القرن العشرين الذي انحسر فيه الابتكار والإضافة والتجديد ورغم أنَّ الخط العربي يتحرك ضمن منطق جمالي مختلف ومنغلق إلا أنه استمرّ لقرون في التجديد والإضافة والتنميق في الحروف وفي ميزان السطر الكتابي

وهذا التجديد ضمن المنطق الجمالي المنغلق الذي يتعامل مع الخط بمفاهيم مختلفة نشأت ضمن ظروف متداخلة بين الدين والتصوف والتقديس وبالنتيجة تحول الخط إلى أصول مقدسة غير قابلة للمساس بها وربطه بالكتاب المقدس “القرآن الكريم” بصورة غير منطقية ذلك لأنَّ القرآن الكريم ساعد في تطور ونضج وتجديد وابتكار الخطوط والبحث عن الجماليات في الكتابة والتزويق والتذهيب في الحواشي لكننا نلاحظ أنَّ احترام الخطاط للحرف تحوّل إلى خوف من التفكير في تطوير شكل الحرف نفسه حتى أصبح مفهوم الفن لدى الخطاط مفهوماً مختلفاً، إذ يقتصر على قوة الحرف والمحاكاة والتقليد الممل مع أنَّ هذه الأصناف ضرورية لكل خطاط على ألّا يتوقف عندها طويلاً بل عليه أن يتعلم منها ليتجاوزها في حين تحول الجمال من الإبداع إلى الإتقان إضافة إلى ذلك أصبح الفن بمفهومه المتعارف عليه يشكل فوبياً لدى الخطاط مما جعله يعيش حالة من العزلة والجمود الفني بحيث من النادر أن تجد خطاطاً له اطلاع على الفنون الأخرى أو حتى على مدارس الرسم العالمية المعروفة باعتبار أنَّ الرسم أقرب الفنون للخط العربي ومن المعروف أنَّ الابتكار يأتي من الاطلاع والمتابعة لكل أنواع الفنون، أيضاً من النادر أن نجد حركة نقدية في الخط فالنقد بمفهوم الخطاط هو التقليل من قيمة عمله والالتفات إلى الهفوات التي يقع بها نتيجة إجهاد نفسه في التقليد الحرفي للخطاطين القدامى، هذا كله جعل من الخط يعيش في واد والفنون الأخرى كلها تعيش في واد آخر بعيد ومختلف مناخياً مما دفع ببعض الخطاطين لأن يتجه إلى إضفاء صفة التشكيل على الخط ذلك من خلال استخدام أدوات الفن التشكيلي في الخط مما جعلهم يخرجون من الخط إلى منطقة أخرى وهذا أيضاً جاء نتيجة فوبيا الفن لدى الخطاط فهو متخوف من المساس بالأصول المتعارف عليها والحال أنَّ الخط كغيره من الفنون الأخرى بحاجة إلى قراءة جديدة في أصوله وليس خارجها، أي أن يصلح الخط العربي للتعبير من خلاله وألّا يعتمد على أدوات أخرى للتعبير، ولا يحدث ذلك إلا بالبحث ضمن المنطق الجمالي الذي يحكم الخط أو باستخدام تقنيات الخط الكلاسيكية بمنطق جمالي مختلف أو العكس، بشرط أن يتداخل عمل الخط مع فلسفته، وفلسفة الخط ومنطقه الجمالي المغلق هو جزء من عظمة الخط بشرط أن تتحول هذه الفلسفة إلى روح بداخل الحرف تجعله قادراً على التعبير عن نفسه، هذه الجماليات المنغلقة على نفسها في الخط ومنظومته جعلت الخطاط يدور في دائرة مغلقة من العمل والجهد في تقليد أعمال الأقدمين وتتبع آثارهم والسير على نهجهم وهذا كله جميل لكنه بكل الأحوال لا يجعلك مثلهم لا بقوة الحرف ولا بشخصيتهم الظاهرة جلياً في كتاباتهم، والفن لا يعني بالضرورة أن تضع كميات من الألوان والفوضى أو أن تتبع أسلوباً كتابياً. ما نحتاجه في الخط هو تطوير منظومة تفكير الخطاط نفسه والعمل ضمن جماليات الخط وتقنياته دون الخوف من “سلفية الخط” الذين ينصبون أنفسهم حماة الحرف العربي و”حرف القرآن الكريم” لأنَّ الله سبحانه وتعالى يحب الجمال ويحب الإبداع وهو المبدع الجميل والخط العربي هو نفحة إلهية تظهر بأشكال متعددة ومختلفة وما الخطاطون إلا وسيلة لإظهار هذا الجمال الذي يتجلى في أشكال وجمال الحروف وتعبيريتها لذلك لا يمكن لأي خطاط أن يحتكر الخط أو أن ينصب نفسه سيداً لهذا الفن العريق.