خوف سائل.. ثنائيَّة الصراع الوجودي

ثقافة 2023/12/27
...

 د. سـافرة ناجي


الإنسان بين عالمي (الولادة/ الموت) والحيز الزمني بين لحظتي الولادة الموت في عرض خوف سائل من اخراج صميم حسب الله، ونص حيدر جمعة، وتمثيل يحيى ابراهيم ورضاب، وهشام جواد، وبهاء خيون، وسينوغرافيا علي السوداني. ضاجة باسئلة الخوف ذات التشظيات الخشنة، اذ يعيد العرض انشاء خشونتها الضاغطة على المتلقي أولا، ومن ثم على شكل العرض ثانيا.
وهو يضع المتلقي والخوف معا على مشرحة الادارك المتوتر، بكل تجذيره الرمزي القار في معادله الموت، التي ترسم معالم السلوك المرتبك، الذي يثير ديالكتيك الصراع الثنائي بين الإنسان والطبيعة، القار في حتمية الموت والخوف، ذات الصيرورة  المتضادة في آنيتها وقلق ما بعدها. لذلك يؤدلج سؤال القلق: لماذا اخاف وممن اخاف؟ كاشفا عن سذاجة وعي السؤال، إذا ما وضع على طاولة التشريح المنطقي له. ولكن عندما نقلب السؤال على الوجه الآخر، نجد أن للسؤال ماهية ذات أبعاد زمكانية ومعطيات فلسفية، تبلور موقف الوجود الإنساني منه، ولأن كل مجهول يمثل مصدر الخوف ورد فعل لسايكولوجية الصدمة السالبة. والسؤال الذي أثاره هذا العرض هل ننتمي إلى الخوف وجدلية ما يترتب عليه من أثر؟ وما طبيعة الجدل ازاء تصوراته المجردة والمرمزة؟ مما جعل من السؤال حول ماهيته، مصدره، أثره، الذي يذهب بنا إلى ما بعد التوقع المدرك، مما يجعل منه خوفا مزمنا تدور في فلكه كل جدليات الحضور الإنساني وحراكه، وتناسل الاسئلة عبر تلازمية البعد التاريخي بين الماضي والحاضر وموت المستقبل في اشارة إلى أن كل خوف ينتج خوفا جديدا، ولا مناص من الانعتاق من قوقعته، وهذا ما انطوت عليه ثنائية الخوف بصريا في عرض خوف سائل، الذي بدأ بمسارين الأول قار في الذات، لكنه يؤمن ايمان مطلق أن كل شيء خارج الذات يمثل مصدر خوف، فكانت ايقونة غلق الابواب هي الحد الفاصل بينهما، فكان وجودها معادلا موضوعيا لهذه الفرضية الدرامية، فكشف عن الرضوخ لمعطيات صراع الخوف المستورد وتحديه السلبي في المكوث خلف الأبواب ورفضه بشكل عكسي، فأصبح  فعل التقابل الثنائي ضرب الأبواب وغلقها، إعلانًا على أن كل ما في البيت هو علامة الامان المطلق الحاضر والمغيب في آن واحد، وفي ظاهرة يرفض الرضوخ ولكنه مستسلم له، التي جعلت من ارادة (القوة/ الأب) منكسرة، خاوية، تناور دراميا بين القوة والانكسار، وبسبب هذا اللاموقف سمح للغريب ان يقتحم قداسته، وخلخلة قوة (البيت/ الأب/ الأم)، التي تتشظى بين العاطفة والعقل، مما نتج عنها اللا اتزان السلوكي في التوفيق بينهما، وتمظهره في الصراع المميت بين الاخوة.  قدم العرض حكايا الخوف عبر رمزية البيت وتحوله إلى ايقونة (موت)، مستعرضا معطيات (الخوف/ الموت) وحضورها في الذاكرة الجمعية للوعي، وما تبديات صور الخوف سوى امتداد لما حدث ولما سيحدث: (الحروب، السلطة، العنصرية، دوغمائية الفكر، اللاعدل، الشوفينية السياسية) بحديها الخشن والمرن المادي عبر أدواته الفنية الصلدة مثل الزي أسود، غلق الشبابيك والابواب، الطابوق، القبر، العنف الجسدي بين الأبناء، الغياب القسري للبنت، سطوة التكنولوجيا وانتهاكها لشرف البيت.
وبهذه العلامات يحاكي الخوف ويناقشه بين بعدين الأول العمق التاريخي للخوف في دلالة السلسة والثاني امتدادها التكنولوجي وهيمنته على يوميات إنسان اليوم.
الخوف في هذا العرض لا يضع حلولا، وإنما يتأمله في تمرحلاته التاريخية، فكل ما تنتهي مرحلة تبدا مرحلة أشد خوفاً ورعبا، ولا خيار أمام حدي العرض (الباث/ المستقبل) غير الاستسلام للخوف ومصدر صناعته، الذي يمحو الحاضر والمستقبل. وهذا ما أعلن عنه العرض بشكل مباشر ابتداءً بدلالة موت الجد، ورمزيتها الايدلوجية، قد اطاح بالبيت واصبح هشًّا مباحًا  بلا مستقبل، الذي أكده فكريا بهروب البنت، وموت الابن أيقونة الحكمة.  ديالكتيك الخوف في هذا العرض وتحوله من الصلد المادي إلى السائل التكنولوجي بات واقع لا يمكن الصمود أمام إغراءاته، ولا خيار غير الاذعان له. وهذا ما كشفت عنه فرضية العرض وما ستكون عليه بشكل مباشر، الذي بثته علامات تشكيل العرض من المشهد الافتتاحي إلى نهاية العرض. ما أدى إلى انزياح الأداء إلى نمطية هذه المباشرة. مما غيب دهشة اللاتوقع. رغم محاولة كسر ايقاع ما ينطوي عليه الواقع من خوف، ومحاولة المزج بين خشونة الخوف وسيلوته التكنولوجية الضاغطة على يوميات
 المتلقي.