ماهيَّة إدراك الحقيقة

ثقافة 2023/12/31
...

 ميثم الخزرجي

لعل الغاية المثلى التي تكنها نظرية المعرفة في جميع محاورها الجدليَّة واستقراءاتها الكاشفة هي البحث عن الحقيقة كونها مفهوماً قلقاً لها مناسيبها المتباينة التي تسعى إلى زعزعة المتوارث والحتمي بجميع شروحاته المؤسس لها، وهنا تتبين الجدوى من الفلسفة في ماهية طرح الأسئلة المتراكمة في الذهن والحياة لتنشد عن الكيفيّة التي أخذت قداستها وحجبت أجوبتها، فضلا عن تفكيك محتواها والسعي نحو إعطاء صورة مقنعة للواقع واستفهاماته السائرة.
 فالحقيقة في نظر المعرفة هي البرهان المناط برزمة مسوّغات لا تخرج من الرؤية العقلانيّة القائمة على الجدل الذي ينزع نحو التغيير وليس بوصفها هدفاً يقينيّاً خالصاً وما يترتّب على هذا الهدف من معايير معينة تهم بالحدس الذي يعنى بالروح والنفس البشريَّة، وقد نتساءل عن مدى مساحة هذه الحقيقة أو لعلنا نشير إلى أصلها وأسباب انقيادنا إليها؟، وهل أن التعاليم الكهنوتية واللاهوتية بمصاديقها الغيبية حقيقة مطلقة لا يمكن مناقشتها أم أنّ العلوم الصرفة وحدها هي الحقيقة؟، وقد يتخطى هذا البحث إلى حقيقة الوجود البشري والفعل الذي يقوم به وتقلّبات الطبيعة بجميع اختلاجاتها. هل أن ما نراه في العين ونسمعه في الأذن معيارا للحقيقة على الرغم من الطقس المعلوماتي وتصعيد فروع الذكاء الاصطناعي التي أسقطت الخيال على أرض الواقع؟، هل أن العقل المدرك للأشياء وجه من أوجه الحقيقة؟، وهل أن الحقائق التي تعنى بالتفاصيل الفسلجية وتحولات الطقس ثابتة؟، هل نشك ولو للحظة واحدة أننا في وهم عظيم؟.  
الوظائف الديناميكيَّة التي نقوم بها خلال اليوم، تحركاتنا، كلها مجرد فعل فيزيائي سرعان ما يخفت هذا الفعل ويضمحل، هل أن المادة وحدها حقيقة غير قابلة للنقاش في حال لو محتها الطبيعة وأصبحت خالية من أي حياة تذكر، هل لنا أن نسميها حقيقة وقتية؟، هل ثمة حقائق وقتيَّة؟، وقد نوغل بالسؤال عن حقيقة الكون الذي نتواجد عليه ونوعيتها أيضاً، ما هو مصداق الظن والتخمين الذي ينبئنا عن سمة الصح أو الخطأ؟، هل نعدّه دليلاً ناجعا وقائما بذاته في إعطاء بيّنة أو رؤية عقلانيّة؟، هل أن الأديان بجميع سننها ذات حقائق أبديَّة لا يمكن التغيير في بنيتها؟.
فلو توقفنا عند أفلاطون ونظريته في عالم المثل التي تنص على أحقية المدركات العقليَّة، وما هذه الموجودات المتحركة على السطح سوى ظلال لحقائق كامنة كونه أوكل للعقل البشري على حد زعمه البرهان الأسمى معتبراً أنّه القادر على استيعاب محاور الصراع الدائرة في هذا الكون ودرجة تقصيه عنها، فالحقيقة التامة لجميع الأشياء أصلها واحد غير أن لها تمثلاتها المتباينة، ولكل شخص منا رؤاه الباحثة التي يزاول عبرها غاية تحليل الأفكار ويتحرّى عن جوهرها؛ لذا فإنّ طريقة تقبلنا لطبيعة الأشياء تكون متفاوتة، بل إن استجابتنا لها متراوحة أيضاً، وقد ينظر إلى ماهية الخير والشر واللذة وإلى ما شابه ذلك من سمات تعنى بكينونة الإنسان، فهناك فرق شاسع بين نظرتك للأشياء بمحتواها العام وبين أن تدرك معناها في حدسك، وما طرحه أفلاطون في هذه الجنبة من أن الصواب الذي يعيه الفرد في مضمراته ناجمٌ عن ملاحظاته الحسيّة غير أنّ هذه الملاحظات لا تعطي التصويب الشامل لحقيقة الأشياء وقد يكون منقوصاً أيضاً.
 لعلّي أجد أن قصّة كهف أفلاطون مثالاً صريحاً على الوهم الذي يصاحب الحقيقة، فقد اجترح أفلاطون هذه الفكرة في الجمهورية على لسان أستاذه سقراط حيث فرض أن مجموعة من البشر ولدوا مقيدين في كهف تتوسّطهم نار وقبالتهم حائط، لعل الحائط تبان عليه خيالات البشر من خارج الكهف بقوامهم الاعتيادي حال إشعال النار، بينما البشر المقيدون لا يستطيعون أن يروا سوى هذه الظلال الناجمة عن ممارسات الخارج، فلو أخذنا أحدهم وأخرجناه من خارج الكهف بالطبع سيتغير عنده المحيط وطريقة تعاطيه مع الآخر، سيرى الواقع والأشخاص على حقيقتهم بعيداً عن التأويل، لكنه في الحالة الاولى كان يصرّح بحسب وعيه واستكشافه لها، بينما إدراك الحقيقة الفعلية بالنسبة له مغايرة عن السابقة فلن تصله سوى الملامح وهذا يقودني إلى سؤال متباين في مضمونه حول اعتبارية النظرة العامة وجديتها التابعة لنا نحن أبناء هذا العالم المعلوماتي والإلكتروني الضاج بكل شيء، كيف ننظر إلى نوعية الحقيقة وما هو منسوبها أزاء تقنية الأوان التي حصلت على أرض الواقع وما مدى امتثالنا لها.
واقعاً ثمة أبعاد جدليَّة لفكرة الحقيقة تكون خارجة عن أرض الواقع، بل لا يمكن أن تندرج من ضمن مقرراته، وهذا ما استقر عند افلاطون نفسه فقد أكد أن العالم المادي عالم غير مكتمل به ما به من الأخطاء والنقص لذا يكون جوهر الأشياء مبيتٌ داخل العقل ولا يمكن أن نثبت مداه الفعلي بصورته الصحيحة على الواقع، غير أن العقل البشري قادر على إيجادها، مصرّاً على أن كل شيء قابل للتغيير إلا أن الأفكار المتضمنة حقيقة ثابتة لها نتائجها العلمية لا تقبل التشريح والطعن، وقد يكون هناك استحداث حول ماهية هذه الأفكار إمعانا لحقائق رياضياتية أو كونية جديدة لكن لا يمكن إلغاؤها بصورة قطعيَّة، لذا اعتبر أن الروح  خالدة وقد بدد المادة فلها نهايتها الحتمية، بينما نجد أن تأسيس سقراط حول هذا المضمون جاء عبر ارتباطه بالمحيط وما يتداخل عنده من فطرة نحو اتخاذ موقف من الأشياء المصاحبة للما حول وطريقة التعاطي معها لكنه فرض على أن التشكيك -بدافع الوصول إلى البرهان- يحتاج إلى معرفة، فلا يأتي ساذجاً وإلا يصبح ذا دافعٍ بوهيمي صاخبٍ لا ينمُّ عن وعي أو دراية، قد تحركه غريزة احتياجه للحقيقة لكنها يجب أن تكون ذات حمولة مكتنزة تؤهله للدفاع عن
متبنياته.