حبيب السامر
ما لا أفهمه هنا، كيف للقصيدة أن تتمشى في شوارع هذه المدينة الضاجَّة بالحياة، تتسارع خطواتها، وهي تتماثل مع هذا السيل الذي يتشتت في تسميات المدن والقرى وحتى الأزقة الضيقة، وسط تلامع الاشارات الضوئية وهي تترك ظلالها على الأرصفة، تكاد أعمدة البنايات تتقارب من سماء المدينة لتشكل لوحة تتعامد فيها المربعات والدوائر وربما المستطيلات المتكسّرة على مرايا سطح البحر الذي يمتدُّ بعيداً جداً، تلمح نهايات سفن في المدى، تتعاقب المويجات وهي تصفع الصخور عند الساحل، هذه الحدود اللا نهائيَّة لهذا الامتداد المائي المحيّر، وهذا الهدير الملتبس بالصخب، ليعزف لحن سمفونيّة الحياة.
حين يكون الشاعر في مكان ما في اسطنبول، تبهره كل حركة ورفة جنح لطائر يغازل الماء، نساء ممشوقات على أرصفة وفي اسواق كبيرة، يجذبن النظر، ويسرقن قلمه ربما، تختزن قاع الذاكرة الكثير من الصور التي تستطيل مع كل جرة قلم، قد يبهرك هذا التوسع الهائل في البناء وامتداداته وسيل الناس، لكن هذه الفكرة المجنونة لم تأتِ منذ سبع ليال التي أخذته من مكانه، وهي تتجول به في محطات ومناطق متنوعة، كلما حاول الاستقرار عليها، نبتت في الرأس فكرة أخرى، لتنمو مثل فسيلة نخل في أرض أبي الخصيب، تتمركز ببؤرة مشعة لا تلبث أن تنطلق إلى مساحات شاسعة، وهي تتوالد مع أفكار أخرى، ربما بسبب هذه الغيمة الرماديّة التي تحيط به وتعلو بعيداً عنه كلما حاول اللحاق بها.
حين تسللت -الفكرة- فجأة، من دون سابق تحضير، أمسك بها وهو يعلن عن بدء اشعاعها على صفحة الورقة، هذه الفكرة المحيّرة التي تحاول أن ترسم خطوطها المتشعّبة في لحظة صمت، تتقافز مثل سمكة خارج النهر، كلما حاول أن يقبض عليها بيديه يفشل، بلمسها الناعم والسائل المحيط بزعانفها، هكذا يسيح الحبر على سطح الورقة، وأنت في اسطنبول لتكتب عن فكرة تلاحقك في كل مكان، تقول في نفسك: سأكتب عن بحر مرمرة وجمال ساحله، تخطف في لحظة امرأة تضيف للبحر زرقة، وللسماء اتساعا وللخضرة بهاء، وتعقبها أخرى تسرق منك البحر على مداه، وأنت تبدأ بالسطر الأول عن طائر النورس وهو يلامس وجه الماء، اقترب الزورق الأبيض ليربك النورس وهو يطير على مسافة قريبة، تلاحقه نظراتك، يدفعه الموج بعيداً، ويضيع من بين يديك المشهد، ويغادرك النورس الأليف، فيما تتكاثر خطى النوارس البشريَّة وهي تمضي سريعة على ممشى الساحل، كلما تابعت خطى واحدة، سرقتك الثانية بقوام أجمل، هكذا يتكرر المشهد كل يوم، حتى حين تقرر أن تذهب إلى أمكنة متنوعة ولتكن مثلا «يلوا» أو الفاتح، منطقة أقصراي، بكر كوي، ستجد ذات المشاهد الجاذبة، كأن الحياة تتناسخ هناك، تجرب أن تجلس في كافتيريا على الساحل، أو تدخل «مولات» كثيرة ومعالم التراث عبر التأريخ القديم، مضيق البسفور والبرج المميز، يتكرر هذا منذ مدة وهو يراقب، يفكر، ويغادر أمكنته المعتادة التي كان عليه المكوث فيها طويلا حتى يكتشف مناطق أخرى، ويواصل البحث عن أماكن ليلية مشعة بالأضواء المتراقصة، وعلى بعد شارع ضيق تقع كافتيريا صغيرة، باشر تدوين ملامح قصيدته الجديدة التي رافقته بين البصرة ومطار اسطنبول الجديد في الجو، وعلى مدى ثلاث ساعات بين مملكة الغيم واتساع المسافة بين النافذة البيضوية في السماء والأرض غير المرئية، والنص ينمو في رأسه.