رعاة منغوليا وحياة بلا عشب

بانوراما 2023/12/31
...

 فريد هارتر وأوفورخانجاي
 ترجمة: مي اسماعيل

جلبت أزمة المناخ المزيد من العواصف وفصول شتاء باردة وصيف أكثر جفافا؛ مما يهدد بمحو نمط حياة كامل في السهوب المنغولية. تقود ذكرى الشتاء الماضي الراعي الخمسيني "جانزوريج تسيرنشيم" إلى التقطيب؛ إذ عصفت الرياح الثلجية بالسهوب وتجمدت قشرة سميكة من الصقيع فوق الأرض؛ مما منع الحيوانات من تناول الحشائش القليلة المتبقية. وانخفضت الحرارة إلى درجة 35 سيليزية تحت الصفر، فتجمدت بعض حيوانات الراعي والتي انهكها الجوع حتى الموت، بينما اختنقت أخرى في الزرائب بعد تزاحمها معا طلبا للدفء. ولكي يُنقذ ما تبقى من القطيع؛ ارتحل تسيرنشيم بضعة مئات من الأميال طلبا للمرعى، وقضى أسابيع وهو ينام في سيارته؛ كادت التجربة أن تحطم عزيمته.
يقول هذا الراعي: "أسلوب الحياة البدوي هذا هو تراثنا؛ وأنا فخور بمواصلة ذلك.
ولكن الأمر أصبح صعبا للغاية بسبب الطقس القاسي.. قارب عمري الخمسين وبدأتُ أتساءل أحيانا: ما جدوى الرعي في هذه الفترات الصعبة؟
وقد أبيع القطيع وأبحث عن عمل في المدينة".
يعمل نحو ثلاثين بالمئة من سكان منغوليا؛ البالغ عددهم نحو ثلاثة ملايين ونصف مليون نسمة؛ بالرعي، ويتبعون المواسم عبر السهوب بحثا عن المراعي الوفيرة لحيواناتهم.
ويتفاخر حتى سكان المدن بارتباط بلدهم بالرعي.. يقول "بيامبادورج سينجارجال" أحد مسؤولي مقاطعة أوفورخانجاي الوسطى: "نحن مرتبطون بالماشية وثقافة البداوة موجودة في جيناتنا". لكن انهيار المناخ وسوء الإدارة يدمران الأراضي العشبيّة في منغوليا؛ حيث تأثرت نحو تسعين بالمئة منها بالتصحر. وهجر عشرات آلاف الرعاة قطعانهم واستسلموا لجذب المدينة.

ظاهرة {دزود}
وفقا للأمم المتحدة ارتفعت درجة الحرارة في منغوليا (التي ليس لديها سواحل) بمقدار أكثر من درجتين سيليزية منذ أربعينيات القرن الماضي؛ وهذا أعلى بكثير من متوسط الزيادة العالمية، بينما انخفض هطول الامطار السنوية بشكل حاد.
هذا التغير قاد لفصول صيف أكثر جفافا تليها فصول شتاء قاسية البرودة؛ وهي ظاهرة مناخية تنفرد بها منغوليا، وتعرف محليا باسم " دزود-dzud".
منذ زمن ليس ببعيد كان يتم الإعلان عن "الدزود" مرة أو مرتين كل عقد؛ كما يقول  تسيرنشيم وهو يعدد فصول الشتاء القاسية الأخيرة: "الآن أصبحت تلك الظاهرة تتكرر سنوية تقريبا: 2019، 2020، 2021، 2022". يؤدي انخفاض معدل الأمطار صيفا إلى نمو أقل للعشب في السهوب، ما يجعل من الصعب تسمين الحيوانات لمواجهة فصل الشتاء. وحينما يأتي المطر أخيرا، قد يسقط بغزارة وسرعة؛ فيجرف التربة السطحية. كما أن عواصف البَرَد والتراب وظواهر جوية متطرفة أخرى باتت أكثر تواترا.
يقول "بيان ألتاي لوفساندورج" رئيس منظمة إنقاذ الطفولة بمنغوليا، والتي تقدم العون الطارئ للرعاة: "تغير المناخ يحدث الآن؛ وما لم يتخذ صانعو القرار اجراءات فورية؛ ستموت طريقة حياة البداوة هذه، وسيبقى البلد بلا هوية".
يظهر تأثير المناخ المتغير جليا في السهل المنحدر بلطف حيث نصب تسيرنشيم خيمته؛ إذ تبدو أعواد العشب المتناثرة التي تنبت من التربة الرملية قصيرة وجافة وهشة. وعلى بعد بضعة كيلومترات تستذكر جارته "جامب نافجان"؛ البالغة من العمر 68 عاما؛ كيف كانت الأمور في صباها، قائلة: "حينما كنت طفلة صغيرة لم يكن والداي يتمكنان من العثور علي وسط الأعشاب التي كانت طويلة. وكان لدينا الكثير من الزهور البرية والأمطار صيفا؛ ولكن خلال السنين العشر الأخيرة لم يعد لدينا أي عشب إطلاقا..".
كما هو حال العديد من الرعاة؛ اقترضت عائلة جامب  نافجان مالا لكي تشتري العلف. وبعد القرض الذي تسلمته في الشتاء الماضي بلغ المجموع نحو 13 مليون توغريك منغولي؛ أي نحو ثلاثة آلاف جنيه إسترليني، وهو مبلغ كانت العائلة تأمل في تسديده من خلال بيع الحملان وصغارها عندما يأتي فصل الربيع؛ غير إن القليل من حيواناتهم التي كانت تغذيتها شحيحة تمكنت من التكاثر. وتناقش العائلة الآن طلب قرض جديد لكي تتمكن من تسديد القروض القديمة؛ وكما تقول جامب نافجان: "كأنها حلقة مفرغة؛ فما ننتجه لا يكفي أبدا لسداد الديون".

تحديات الرعي الجائر
بعد أن شاهدوا المصاعب التي يتحملها آباؤهم؛ لا يرغب سوى القليل من شباب منغوليا بإتباع خطواتهم. يريد غالبية طلاب مدرسة ثانوية في بلدة "سانت" أن يصبحوا معلمين أو ضباط شرطة أو أطباء؛ وليس رعاة؛ بحسب وصف "شيرنينتويا إنختور" (15 سنة): "أصبح الأمر صعبا جدا تحت ظروف الطقس القاسي
هذه".
لكن انهيار المناخ ليس المشكلة الوحيدة؛ إذ يمثل الرعي الجائر أيضا تحديا كبيرا، ترجع جذوره إلى فترة انهيار الاتحاد السوفييتي أوائل التسعينيات. فتحت الحكم الشيوعي كانت الدولة تدير الثروة الحيوانية؛ وكان بإمكان الرعاة تملُّك عدد قليل من الحيوانات؛ فيما تقوم الجمعيات الحكومية بعملية تربية معظم الماشية.
غير إن هذا كله قد تغير مع انهيار الستار الحديدي للنظام الاشتراكي، ورُفِعَت القيود على الملكية الخاصة، وكذلك عن الضرائب على الماشية والقوانين التي تنظم أراضي المراعي. فارتفع بالتالي حجم القطعان على مستوى البلاد كلها؛ وبعد أن كانت أعدادها تاريخيا نحو عشرين مليون رأس، تضاعف العدد إلى أكثر من ثلاثة أضعاف؛ ليصل إلى 71 مليونا بحلول العام 2022.
ويعني التصحر أن هذا العدد الكبير من الحيوانات يرعى ضمن مساحة أقل من الأراضي.
في الوقت نفسه ارتفعت أسعار صوف الكشمير عالميا؛ مدفوعة بزيادة الطلب من الطبقة الوسطى الصينية المتنامية.
وقاد هذا الوضع رعاة منغوليا للاندفاع نحو شراء المزيد من الماعز. ومع اعتياد تلك الحيوانات على أكل الجذور والبذور؛ فإن الماعز أكثر ضرراً على المراعي من الأغنام والماشية الأخرى لأنها تستأصل النباتات حتى جذورها أثناء تناولها للطعام من الأرض.
وأصبح رعاة المنغول معتمدين على إنتاج صوف الكشمير، وتقدّر جامب نافجان أن نحو ثمانين بالمئة من دخل عائلتها يأتي من بيع الصوف، وأن حالتهم الاقتصادية ستتحسن إذا ما تمكنوا من شراء المزيد من الماعز؛ قائلة: "في هذه المقاطعة لا يوجد خيار آخر، ولا سوق للحوم".
ما تسبب بزيادة الطين بلّة؛ هو ظهور قطعان ضخمة يملكها غالبا أثرياء من سكان المدن ورجال الأعمال، على سبيل الاستثمار السريع. إذ يملك نحو ثمانين بالمئة من الرعاة أقل من خمسمئة رأس ماشية، وتشكل حيواناتهم نحو 45 بالمئة من القطيع الوطني. أما الـخمسة وخمسين بالمئة المتبقية فيملكها أغنى عشرين بالمئة من الرعاة؛ وفقا لبيانات حكومية.

حلم العودة إلى السهوب
يقول "نيامتايفان أودونجيريل" مدير مجموعة "ستيب وهوف" وهي مجموعة داعمة للرعاة: "لا تقدم الحكومة ما يكفي من وجهة نظري.. لا يمكننا التحكم في الطقس، ولكن يمكننا تقديم سياسات للتعامل مع تأثير تغير المناخ".
تفتقر منغوليا إلى تشريعات تتعلق بإدارة أراضي الرعي؛ ولكن جرت صياغة العديد من مشاريع القوانين، ومن المقرر مناقشتها تحت قبة البرلمان قريبا. ويبدو أنه لن تحظى التشريعات بشعبية كبيرة بين الرعاة (الذين يخشى النواب الريفيون خسارة أصواتهم)؛ ما سيعرقل عملية صنع القرار.
يقول "بورما داشبال" رئيس "الاتحاد الوطني لمجموعات مستخدمي المراعي- NFPUG": "إنها قضيّة كبيرة بالنسبة للبرلمانيين.. إذ يتمتع الرعاة بصوت قوي، وعندما يتحدثون كمجموعة؛ لا يستطيع أحد التغلب عليهم".
يستطيع رعاة منغوليا حاليا اصطحاب مواشيهم إلى أي مكان؛ غير إن التشريع الجديد سيغير ذلك نحو منح الرعاة حقوقا في مراعيهم المحلية وفضلا عن القدرة على منع الغرباء من رعيها.
ومن الناحية النظرية، سيكون لدى الرعاة القدرة على تدوير مراعيهم على مدار العام، مما يمنحها الوقت للتعافي. كما تشجع مجموعات الدعم على استخدام تقنيات البيطرة الحديثة لزيادة قيمة القطعان الفردية؛ ما يسمح للرعاة بتقليل حجم القطيع من دون التعرض لخسارة المردود المالي. في هذا الوقت تستمر أعداد كبيرة من الرعاة بترك العمل في السهوب والهجرة إلى المدينة؛ فيما يحلم من سبقوهم بالعودة يوما إلى أرض الاجداد وأسلوب حياة الرعي التقليدي.

عن صحيفة الغارديان البريطانية