غالباً ما تقفز في ذهني صورة الفيزيائي المُقعَد ستيفن هوكينغ، صاحب الأبحاث اللامعة حول الثقوب السوداء والديناميكا الحرارية، كلما طالعت قصائد محمود البريكان. فالاختزال، الشاعرية، الأناقة والبساطة المحفِّزة على التأمل التي طبعت بطابعها نصوص هوكينغ العلمية في مؤلفاته “الثقوب السوداء”، “موجز تاريخ الزمن” و”العالَم في قشرة جوز”، هي ذاتها التي تطبع قصائد البريكان التي تركها لنا متشظية بعد موته التراجيدي عام 2002. إن قراءة متأنية للعناوين التي تحملها قصائد البريكان تجعل المرء يتساءل فيما إذا كان البريكان عالِماً يقضي وقت فراغه بكتابة الشعر، أم هو شاعر ينصرف، بعد فراغه من عمله الشعري، إلى مختبر سرّي ليواصل أبحاثه في العلوم؟ أنظر فقط إلى العناوين التي وسم بها قصائده لتفهم ما أعنيه (رحلة الدقائق الخمس، إنسان المدينة الحجريّة، خطّان متوازيان، في الرياح التاريخية، بلّوارت، التصحّر، دراسات في عالم الصخور، مشاهد مجهرية، قصيدة ذات مركز متحوّل، القوّة الطاردة المركزية). فالقصيدة الأخيرة، مثلاً، تدين بثقلها الفكري لنظرية تنتمي عملياً إلى الميكانيكا الكلاسيكية تحمل الإسم ذاته، ولا أظن أن بالإمكان فهم القصيدة، لمن يريد استعادة قراءتها، دون أخذ فكرة عن ماهية القوة التي دمغ بها البريكان قصيدته.
هل حدث وأن شعرت بنفسك منقذفاً بقوة إلى الأمام من مقعدك الخلفي في السيارة بسبب توقفها المفاجيء، رغم أنك كنت مستقراً في مكانك وشارد الذهن؟ هذه القوة التي زحزحتك من مكانك دون رغبتك تسمّى علمياً (القوة الطاردة المركزية)، وهي قوى تظهر خلال حركة الأجسام بشكل دائري أو منحني بسبب ميلان الأجسام للبقاء في حالة اتزان. وتستند هذه القوى التي تسمّى أيضاً “القوى الخيالية”، على عامل فيزيائي آخر يدعى “القصور الذاتي”، وهو ميل الجسم لعدم تغيير سرعته أو اتجاهه. فالجسم الساكن سيظل ساكناً ما لم تتدخّل قوة خارجية وتدفعه للتحرك، ثم يظل يتحرك في نفس السرعة والاتجاه ما لم تغيّر قوة خارجية الطريق الذي هو فيه، وهكذا. ولهذه القوة الجَبرية الصارمة دور كبير في المحافظة على تماسك مكونات الكون، فهي التي تبقي الألكترونات سائرة في مداراتها حول النواة، وتحول دون سقوط القمر علينا بسبب الجاذبية، كما تمنع النجوم ومنظومات الكواكب المنتشرة في الكون من التجمع في قلب المجرّة التي تدور فيها.
ترك لنا البريكان إرثاً مشتتاً، قصائد موزّعة على أزمان مختلفة تطلق إشارات كارثية، مثل نبوءات نوسترداموس، عن مصير الإنسان والكون، وقصيدته (القوة الطاردة المركزية) تدور وتنحني على نفسها كما تدور الدوّامة قبل أن تخفت حركتها وتموت، حيث لن تتيح لها القوّة المسيِّرة لدورانها السريع والقصير قصر الحياة نفسها، فرصةً لالتقاط الأنفاس أو تغيير قدرها. وهذه القصيدة، أسوة بجميع ما قرأنا له، مشحونة بلوعة العالِم الذي يجري اختباراته المصيريّة وهو محبوس في مختبره تحت الأرض، مسابقاً الزمن لإنقاذ كوكبه من مصيره المدمِّر:
لو كان لي أن أطلق استغاثةً واحدة
عبر سماء الجليدْ
لصحتُ من رعبي الخفيّ الوحيدْ:
القوّة الطاردة
إنها صرخة الإنسان المعذَّب المشدود بقوة لا مرئية إلى نير الطاحون، صرخة استغاثة من كائن بشري لمخلوقات غريبة على كوكب آخر، ربما لن يسمعوها، ربما لن يستجيبوا لها، ربما لن تصل إليهم إلاّ بعد فوات الأوان. إنها صرخة (حارس الفنار) الأخير الذي انطفأت نيرانه في ليل عاصفٍ بهيم وهو يحاول تحذير السفن التائهة قبل تحطّمها على الصخور. وهذا هو جوهر شعر البريكان!