باص السجناء

ثقافة 2024/01/02
...

 حيدر علي الاسدي

الروتين اليومي يقودني للمشهد ذاته نفس الشارع ونفس الحافلات نفس الوجوه البائسة، والتي اختلطت تعابيرها ما بين فرط النعاس من الليلة الماضية وبين الطريق الروتيني اليومي لمكان العمل، فنحن أصبحنا نسهر الليل ونغالب النعاس في النهار عكس المطلب البيولوجي لنظام الراحة.. في هذا الطريق الذي يمتد لأكثر من 40 دقيقة في ظل الزحام الصباحي، كيف يتم تزجية الوقت مع سائق شبه أصم لا يجيد سوى القبض على مقود السيارة وينظر للأمام لا ترمش له أي عين!  في المسير اليومي عبر هذا النمط من الحركة يواجهنا على الشارع المقابل عكس سير شارعنا وبشكل يومي مثل عقارب الساعة في ذات موعد انطلاقنا أو وصولنا لهذه النقطة بالتحديد سيارات رجال البوليس مصطحبين معهم باص السجناء وهم يقادون الى المحكمة من أجل نيل العدالة! يوميا يواجهني هذا المشهد تتقابل عيوننا بصورة متكررة، لكن وحدهم السجناء من يختلفون بصورة يومية!
- إنه مشهد سردي يا هذا؟
(ضحك بهدوء ثم عاد لممارسة صمته الرهيب)
- إنه مشهد يغريني للكتابة، توقفت عن ذلك منذ سنتين وأكثر!
(ابتسم هذه المرة لأكثر من 20 ثانية ثم عاود الصمت)
اللعنة هذا السائق الصامت يجهل ما يمثله هذا المشهد لي كسارد أصابه العقم منذ سنتين! .
بعد برهة من الصمت نطق بجملة هادئة:
-إنه مجرد باص لسجناء.
قلت له هذا بالنسبة لك، أما أنا فيمثل لي هذا الباص عشرات القصص، وفي كل عين من عيون هؤلاء المحدقين من نافذة الباص الف حكاية وحكاية.
-كيف ستصل لتلك الحكايات.
- أدخل لعيونهم وأسرد حكاياتهم بعين السارد (قلت له باستعجال واهتمام كبير).
عاد مرة أخرى لصمته، وهو لم يقتنع تماماً ما يمثله لي هذا الباص من غواية سردية، أفتش عن ما خلفهم من حكايات، أبرياء، مذنبون، لا يعني لي هذا شيء، المهم أن أعرف حكاياتهم، بغض النظر عن مدى جرمهم وبشاعة أفعالهم التي اوصلتهم لهذا الباص، ما يهمني كيف استخلص من تلك العيون أصل الحكاية، وكيف أسردها للناس بطريقة يعجبون بصياغة تفاصيلها التي غالباً ما أغذيها من مخيلتي السردية، وأعود مرة أخرى لهوايتي التي لا أجيد سواها أن اسرد الحكايات للناس.
هذا ما يهمني قلت في سري، عيوني مرة أخرى في مواجهة تلك النافذة الصغيرة وعيونهم مرتبكة حائرة تتنظر مصيرها ، أحاول أن اخترق تلك العيون وانفذ إلى عقولهم او مخيلتهم علني أسرق كل محتوياتها واصيغها بطريقتي الخاصة، أسرد محتواها الغريب والصادم، فخلف كل مجرم ثمة حكاية ملئها الشغف والمفاجأة وكسر الروتين، خلف كل عين من هذه العيون ثمة أشياء غير تقليدية أشياء غير روتينية لا تشبه طريقي الذي اقصده يومياً بنفس النسق، كلما اقتربنا من المواجهة اليومية على عكس الشارع الذي يقودني لمكان عملي ويقودهم لمكان العدالة! أعكس زاوية النظر فأتأمل تلك العيون الحائرة النادمة الخاسرة وبعضها القاسية، عيون لم ادرك تماماً صعوبة الوصول اليها والنفاذ اليها، كنت احلم بألف حكاية وحكاية خلف تلك العيون.
 كنت أخطط ليكونوا حكاياتي على امتداد أيام السنة، فالفوضى العارمة داخلي كانت تبحث عن سكينة من نوع خاص أطهر فيها نفسي واتطهر من فوضاها عبر استعادة قصص هؤلاء الشباب القابعين في الباص مثل دجاجات تنقل من المعامل الى محلات البيع بالتجزئة (مثواها الأخير او مصيرها المحتوم) بعض تلك العيون كانت تقول لي من دون أن تنبس ببنت شفة الف حكاية وحكاية لا افقه منها سوى الضياع والتيه واحيانا النسيان، ما كان يخيفني حد الرعب ان ذاكرتي تتجمد هناك في معبر هذا الشارع المحاذي لطريق باص السجناء، الزمن لحظة تتجمد ولا يمكن أن أتذكر أي شيء حتى وصولي الى موقع عملي.
 يناديني ذلك السائق الصامت ها قد وصلنا.
أنزل بخطوات مرتبكة إلى عملي... وقد تركت خلفي عيون تضمر العشرات من الحكايات والتي تبحث عن سارد أذكى مني، وأكثر يقظة وانتباهاً للولوج اليها وسرقت ما فيها، علها تتطهر من أدرانها.. وعلني اتخلص من فوضى فرط الحكايات المتلاطمة داخلي!