الماء والنار: سيرة الفنان الحبيب

ثقافة 2024/01/02
...

  أ.د. بشرى البستاني

ليس جديدا القول إن التغيرات المجتمعية الجديدة تفرض أدبا جديدا وسمات فنية تتطلبها المرحلة، لكن ليس من الدقة التسليم بأن هناك سمات ثابتة تجعل من السرد الروائي مستسلماً لطرائق تشكيل “الرواية الجديدة” كتكسير الزمن الدائم والمكان وتغييب الحكاية ومغادرة السببية وتشتيت الوحدة العضوية، والغرائبية والعجائبية، ذلك أن كل حقيقة زمنية جديدة تستدعي شكلاً جديداً، كما أن الأشكال الجديدة تعبير واستدعاء لحقائق جديدة، وهذا التحرر من الاستسلام لتلك الاشتراطات نجده في رواية مي مظفر “أنا ورافع الناصري سيرة الماء والنار” الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، التي تنقلت عبر أزمنة وأمكنة تمتد على أكثر من قارة وأكثر من حدث.
وفتحت خطابها الروائي لأكثر من فن كان في مقدمة تلك الفنون الفن التشكيلي ومبدعوه وأدواته وجدارياته ومعارضه التي كانت تجوب عواصم الدنيا شرقا وغربا، وتقدم للمتلقين عربا وأجانب مواهب عراقية جادة تمكنت من تطوير أدواتها حتى استحقت بجدارة دخول المتاحف الأجنبية العالمية المتقدمة.
 وإذا كانت الرواية خطاباً حضارياً ومرآة لعصرها، فهي شكلٌ من أشكال القص، يتجاوز حقل الأدب تجاوزاً كبيراً حسب “بوتور” كونها إحدى المقومات الأساسية لإدراكنا الحقيقة، فالإنسان مغمور بالقصص متصلة ببعضها مرة ومنفصلة أخرى، بسبب أو بدون سبب. من ولادته حتى رحيله.
   إن تقدم الرواية وتنوعها وانفتاحها على الأجناس الأدبية الأخرى صار أمراً جلياً لأسباب لم تعد خافية على المهتمين بشؤون الثقافة والفنون، لاسيما أن تلقي الشعر قد تراجع عما كان عليه من قوة حضور لأسباب يقتسمها الشاعر والمتلقي كلاهما ومعهما المسؤولون عن توجهات الثقافة العربية، ولكل ذلك أسبابه ودواعيه.
واذا كانت الحياة حقيقةً اجتماعية فان رواية مي مظفر فيها من هذه الحقائق الكثير عبر علاقات جدلية تخضع لتحول السياقات الحضارية التي كشفت عن بغداد، ذلك الزمن السبعيني مركزا حضاريا منفتحاً على الشعر وأجناس الأدب والحوارات الثقافية الصاخبة بين المثقفين على اختلاف تخصصاتهم، مركزاً زاخرا بالحوار والمنتديات والنشر والرسم والنحت والحراكات الإيجابية، يسعى فيها المبدعون لتطوير مؤهلاتهم العلمية باستكمال دراساتهم خارج العراق، كما فعل جواد سليم ورافع الناصري وشاكر حسن آل سعيد وغيرهم.
تؤكد كتب نقد الرواية الحديثة جملة من الأفكار التي تخصّ طبيعة الكتابة الروائية وما يحيط بها من أسس وأفكار وطرائق بناء وتشكيل ديكورات زمنية ومكانية وما يتحرك داخلها من أحداث وشخصيات. وبالرغم من هذه الاشتباكات، إلا أن أجواء رواية “مي ورافع الناصري” وأسلوبها وعناصرها ظلت تتسم بالصفاء متعالية على غموض واشتباكات رواية ما بعد الحداثة وغرائبيتها وما دعت إليه من عجائبيةٍ وفجواتٍ وانتشارٍ معاً. ولعل التوجه لتشكيلات الرواية السيرية هو الذي رسم حركة سير هذه الرواية التي لم تركن لمنهج واحد، بل تحركت ما بين الواقعي والرومانسي  والوصفي الذي استمد من الجمالي أروع سماته. لقد  ضارعت الأحداثُ  وفضاءاتها الروائية منهجها المفتوح الذي كتبت به إذ توزعت الأحداث بين قارات وأماكن بعيدة ومتعددة وعلى حروب كبرى جعلت من وطنٍ تاريخي كالعراق وعمقه الحضاري بلداً محتلاً، ومن شعبه الذي اتسم بمثابرته وعراقة أمجاده موزعاً على البلدان، ومن جيشه وأجهزة أمنه شذر مذر، كل ذلك ورد في الرواية بشكل انسيابي بالرغم من جمعه بين أكثر من منهج، يتقدم الأحداثَ  ذلك الحبُّ المشاكس الذي يتحول بعامل الوعي والنضج الثقافي وصدق الحوار إلى حياة هادئة وديعة متفهمة يسودها انسجام يصل حدَّ التماهي مما ذكرني بما سطره “إيكو” في تنظيراته الروائية  بأن “ السرد في نهاية الأمر وبدايته هو احتفاء بالزمن، ومحاولة لتلمس آثاره على الذات والأشياء.” تعم، نحن لا نشعر بمرور الزمن من خلال فعله فينا أولاً، لكنه يواجهنا وجهاً لوجه من خلال فعله في أناس أجيالنا سلباً وإيجاباً، والمتأمل في سرد هذه الرواية يجده احتفاءً حقيقيا بزمن منجزاتٍ نوعية عملت على تخليد مرحلةٍ حركتْهُا مثابرةُ أولئك المبدعين الذين وعوا مهمتهم الحضارية الكبرى في كون حقيقة الزمن وخلود أثر الإنسان فيه لا يتشكل بالأعمار الطويلة أو بخلود الإنسان في الحياة. لأن ذلك الخلود الحقيقي لا يتحقق الا بالمنجز، وبالأثر الذي يحققه الإنسان في الحياة، أليس ذلك ما وعاه جلجامش بعد فقدانه عشبة الخلود! ويؤكد النقد الروائي قضية مهمة هي أن الرواية معرفة ولكنها معرفةٌ لا توضع بشكل مباشر على لسان الشخصيات، بل هي رؤية تخصّ نسج العلاقات الإنسانية والأشياء وتخص صياغة الوضعيات المتباينة فيها، فالنص – أوسع من قصد المؤلفة والمؤلف، وما يراه القارئ في النص ليس شرطاً أن يكون في ذهن المؤلف، فالسرد يقوم على الإخبار، إنه ينقل الحدث من الشفاهية ليحوله إلى الكتابية التي تنقله نقلة نوعية إلى حيز التوثيق، فتمنح ذلك الخبر حضوراً متواصلاً مع الزمن بالكتابة والتلقي المتجدد، وكيانا يميزه عن أي كيان آخر عبر أجوائه العارمة بالثقافة والفنون وبالمثقفين عراقيين وعربا، مدونةً فعل الشخصيات، ولاسيما الشخصية المحورية التي تولت عملية السرد وأقوال الشخصيات وردود أفعالها الواعية منذ وعت الطفلة “مي” نصيحة مديرة مدرستها بعدم إخبار شقيقها بوفاة والدها لئلا يؤثر ذلك على دراسته وامتحانه، وكانت استجابة الطفلة للنصيحة إشارة لنضج مستقبليٍّ، وحتى مواجهتها الرصينة لمشاكسات الفنان الحبيب الذي كان يطمع بعدم التفريط بحريته التي تتيح له التفرغ لفنه وحرصه على موهبته ومواصلة التجدد والابداع فيها، لكن صبر الحبيبة وسعة صدرها وغضها الطرف عن نزوات مبدع موهوب، ومشاركتها في دعم مواهبه الفنية واحترام حماسه والحرص على دعم مشاريعه كان لافتاً لذكاء رافع الناصري بأن هذه الشابة سيدةُ دعمٍ وحرصٍ على الشراكة وليست امرأة مظاهر آنية أو نزوات عابرة.
 مضى عامان على حبٍّ تكتنفه حيرة رجلٍ مغرمٍ بحبيبتين، بالحرية التي يعتقدها أهمَّ العواملِ الداعمةِ لمواهبه وبشابةٍ يخاف فقدها إذ وجد معها الأمن والانسجام عاملين من عوامل استمرار الحياة والحب والمواهب وتطويرها، ووسط تلك المشاكسات التي وصلت حدّ الاحتدام والمقاطعة، كان المبدع مهموماً بحيرته، بينما كانت الشابة مأخوذة بالقلق من علاقة بلا هدف وهي ابنة عائلة تحسب للأمور حسابها.
 مضى عامان، وكان لا بد من مبادرة تضع حدا للحيرة سواء بحالة سلب أو إيجاب، وتأتي المبادرة عبر موقف شجاع من المرأة “لقد قطعنا مرحلة كبيرة. أنت الآن تعرفني أكثر مما أعرفك إما أن نكمل حياتنا معاً أو نفترق، مارسْ حريتك كما تشاء، واتركني لعالمي. سنبقى صديقين قريبين نتباحث في شتى الأمور الخاصة والعامة. افترقنا ولم نفترق. انقطعت لقاءاتنا المنفردة وتقلصت المكالمات الهاتفية إلى أدنى حد. هكذا هدأتُ أماسيَّ وصمت الهاتف. عدت أنظم حياتي وساعاتها خارج أوقات الدوام. احتضنت نيران توقي إليه واستأنفت حياتي. كان الفراغ قاتلا على الرغم من كل ما لديّ من مشاغل. كتبت كثيراً وقرأت أكثر. دونت يوميات هذه العلاقة لأنشغل به عنه. كتبت نصوصاً شعرية غير مجدية في أغلبها”. الرواية ص 48.
وفي ضربة إبداعية مفاجئة تعلن الساردة بعد حوار منفعل بين الحبيبين قائلة: “في الثامن من تشرين الأول 73 وبعد سنتين من لقائنا الأول عقدنا قراننا”. الرواية، ص 57.