الادميرال لا يحبُّ الشاي

ثقافة 2024/01/02
...

   باسم عبد الحميد حمودي

اسمه عزيز لانكستر، وهو واحد من كبار اللصوص القتلة، الذين أرادوا تغيير النسيج الاقتصادي والسياسي في البصرة، خلال صراع شركة الهند الشرقية مع القوى البرتغالية والفرنسية والهولندية المتصارعة في خليج البصرة وفي لؤلؤة الخليج الأساسية.. مدينة البصرة ... تاج المدن الخليجية، ومن يتحكم بمقدراتها يمتلك هذا الجزء من العالم المواجه للإمبراطورية البريطانية في الهند... لؤلؤة تاج الملكة فكتوريا العظيمة.
ومثلما اشتغل نزار عبد الستار في روايته (ترتر) على صراع النفوذ بين العثمانيين والإنكليز والفرنسيين في الموصل، نجده في (مسيو داك) ينتقل إلى حمانا في لبنان ليدير صراعا دراميا آخر، قوامه الحب وتسلط المصالح ايضا.
كاميرا نزار عبد الستار الروائية لا تهدأ، ففي (الأمريكان في بيتي) يقيم بناءً دراميًا مفجعًا آخر من التسلط، ووهم النفوذ ونموذج المقاومة السلبية الصامتة المعادية لدخول الغريب الأجنبي إلى الدار، التي تعني الوطن بأسره، وليس مجرد البيت المفرد أو البيت النموذج.
الأدميرال عزيز لانكستر حاكم مزيف، ولكنه قوي يدير لعبة الصدام والعراك على النفوذ بمهارة، ليس سببها الصراع بين الشاي والقهوة في مضايف العراق وديوان لانكستر، بل هو تأكيد تلك الخبرة الإمبراطورية في السيطرة على البصرة وامتداداتها، وسط صراع محموم على المصالح ونقاط السيطرة بين الإرادات.
يكوّن عزيز لانكستر في الهند الخاضعة للتاج البريطاني شبكة علاقات تنفذ إرادته الشيطانيَّة بقتل الهنود وبتر أطرافهم إمعانا في الإيذاء وتاكيد سطوة الإمبراطورية خارج اطار سلطة الحاكم العام في دلهي.
كان لانكستر قد قام بقتل الادميرال الفرنسي رينيه والاستيلاء على بدلته ونياشينه وإعلان ذاته ادميرالا وقائدا بحريا، وهو لا يعرف من القيادة سوى حز رؤوس البنغاليين والهنود وهتك سترهم، لإثبات الهيبة الإمبراطورية، وحين وضع في السجن في الهند تمهيدا لمحاكمته وإعدامه.
جاءت الأوامر من لندن بضرورة التخفيف عنه والسماح له بدخول المحظيات، والطعام الفاخر لفترة حتى أطلق سراحه بأمر الملكة فكتوريا ذاتها مع النفي إلى البصرة والإقامة في مقر شركة الهند الشرقية هناك.
يتلاعب نزار عبدالستار بالتاريخ الواقعي وتصوير الصراع في الخليج بين القوى الكبرى آنذاك، وينقل جوانب من هذا الصراع إلى شحنات أخرى من الخيال والعاطفة، والمزيد من الدم والعنف، التي يدير بعض فصولها هذا الأدميرال العربي البنغالي البريطاني.
لا وجود ثابتا وواضحا لهوية أثنية محددة للسيد زيز، الذي هو عزيز لانكستر أيضا.. ابن المتنفذ البريطاني الراحل اللورد لانكستر.
كان عزيز هذا قد أهدى للصين الأفيون وشجعهم على تناوله والترويج له قبل دخوله البصرة، وبعد ذلك كانت صداماته مستمرة مع الفرق الدبلوماسية المتعددة، التي تقيم في البصرة، مثل الهولنديين والبرتغاليين والفرنسيين، إضافة إلى الوسط العربي الذي عقد وجوهه علاقات جيدة مع المقيمية البريطانية وممثليها.
كانت هذه الصدامات تؤكد نزعته التسلطية الفردية، لصناعة قوة أخرى موازية للتنظيمات المتصارعة في البصرة والخليج، وقد وجد عزيز لانكستر في السعي، لنشر الشاي بديلا عن القهوة السارية في البصرة والخليح نشرا لاقتصاد آخر وثقافة ترويج أخرى، تشكّل هيمنة ثقافيَّة واقتصاديَّة معا. كان الصراع مع هولندا عبر الصراع بين الشاي والقهوة صراع نفوذ وعاداتٍ وتقاليدَ ومعتقداتٍ شعبية، لكن هذا الصراع لم يتأكد بالتثقيف الذاتي والمحاضرات، بل بدخول سوق القهوة وهي سوق التجار الهولنديين بفتيات دم القمر اللواتي جلبتهن بيشا معها ليقمن بمهارتهن المعهودة بتصفية تجار القهوة قتلا بالسيف...
هنا تقوم المقيمية البريطانية بتهريب الفتيات إلى المحمرة من البصرة، بعد افتضاح الأمر ومن هناك إلى كلكتا.
كان عزيز لا يشكو من أصله العربي المشبوه، وهو متمسك بديانته الأرثودوكسية التي جاءته من متبنيه وكانت زوجته ماريكا لانكستر قد استطاعت استعادة الحانة، التي كانت تمتلكها قبل استيلاء الهولنديين عليها، وذلك بعد مقابلة القنصل الهولندي (هويت) لعزيز في بيته المنيف، واعترافه بتقسيم السوق البصرية الاقتصادية مناصفة بين القهوة والشاي. مع الاعتراف بسيادة المشروب السيلاني على القهوة.
بدا كل شيء جميلا، وقد حقق عزيز انتصاره الكامل عندما زاره بعد ذلك السيد (هاي شنغ) الصيني قادما من المقيمية البريطانية، وأطلق عليه رصاص مسدسه انتقاما للصينيين، الذين قتلهم الافيون بترويج الادميرال عزيز.
قال عزيز قبل موته ( يبدو أن السيدة بريطانيا لم تسامحني).
ظاهر الأمر أن حكام الدولة العجوز قد نفذوا الكثير من مخططاتهم بتحييد نفوذ الدول الأخرى بواسطة المرتزق والادميرال الكاذب زيز لانكستر، وأن الرجل نفَّذَ كل أحلامه في السطوة، وهو يزيح اعداء الدولة العجوز حتى حانت ساعته.. وتلك خطوة معروفة للدول الكبرى، التي تصنع الرجال الاقوياء لينفذوا ما تريد ثم تزيحهم.. ساعة تشاء.
نزار عبدالستار لعب على توازنات السلطة والجنس بمهارة مع لغة مرنة مرحة وسط حوار ممتع أضـاف للشحنة الدرامية الكثير بنجاح الروائي المتمكن.