ألوانٌ خلفَ جدران القدس المسحورة

ثقافة 2024/01/07
...

 وارد بدر السالم


من التّراث الموسيقيّ العالميّ، ومن خلال "بحيرة البجع" مقطوعة الموسيقار الروسي "تشايكوفسكي- 1887" يتجلى الفنان الفلسطينيّ وائل ربيع في إنشاء لوحة "المدينة المسحورة" عن مدينة القدس المحتلة.

 لا بطريقة الرسم الموسيقي الذي يعتمد على السلّم المتواتر، إنما عبر التعبير الواقعي التعبيري بالتّدرج الموضوعي لفتح مسلّة المعاناة التي يعاني منها الفلسطينيون، وهذا من الشائع في الأدبيات والفنون الفلسطينيّة، التي تقف على المأساة الطويلة، والمعاناة الإنسانيّة التي تشكل نقطة بارزة في الإبداع الوطني الفلسطينيّ.

لوحة "المدينة المسحورة" قد تكون مدخلاً مناسباً للمداخلة مع تجربة الفنان وائل ربيع، وهو يقرأ أبجديات الاحتلال الصهيوني، ويقوم بتوثيق التاريخ الفلسطينيّ في تداعيات اللوحة وألوانها وحضورها البيّن في مجمل لوحاته ومعارضة التي أقامها الفنان، كونه ابن البيئة التي أظهرته على فطرته الوطنية، وهو يعيشها حرفياً بضوء الواقع، لذلك كانت الواقعية في التعبير أقرب إليه من أية مدرسة فنية، وهذا شأن الفنانين الفلسطينيين الذين لا يميلون إلى الرمز، بقدر ما هو تأكيد على وجود أصيل وهوية ذاتيّة وتأريخ أصيل، وبالتالي يمكن فهم التوجه المباشر لهم، كون فلسطين ليست ذاكرة حسب، إنما هي كيان تاريخيّ أصيل، تعاقبت عليه الحضارة الإنسانيّة، بما يمكن إيجاد كل حلقاته موصولة بروابط التاريخ الإنساني. لذلك نجد الاحتلال وعبر أكثر من سبعين سنة يحاول مسخ الهوية الوطنية وتشويه صورتها، وإيجاد فراغات في المحنة الإنسانية المشتركة، لكن الفن التشكيلي، هو أحد أبرز الممكنات الدفاعية عن الوجود الوطني، يجتهد في إيجاد علاقة تضامنية بينه وبين المجتمع، وردم تلك الفراغات بقوة الواقع وتشريح الاغتراب إلى وحدات صغيرة، تجسدها اللوحة لتأصيل الهوية المحليّة الوطنيّة، لنجد أن الواقعيّة التعبيرية هي الأقرب إلى ذائقة المجتمع وتذكيره بحقول الزيتون وواحات الجمال ومفاتيح البيوت المنهوبة. 

تلك المفاتيح التي تشي بأن وطناً مسروقاً بكامله. فالمفتاح الفلسطينيّ هو الذاكرة الحيّة التي لا يمكن لأي فلسطينيّ أن يتخلى عنها، وهو رمز من رموز البقاء والتطلع إلى العودة. مثلما هو بوّابة العبور إلى الماضي والتطلع إلى المستقبل بوجود الحاضر الذي دنّسه الاحتلال بالطرق كلها.

مَثل الفنانون الفلسطينيون، اذ يصور الفنان وائل روح البلاد المحاصرة بالأسلاك ووحشية المحتل، لذا جاء عنوان أحد معارضه باسم (ألوان خلف الجدران) برمزية جليّة تعبيريّة مباشرة عن الجدران الفلسطينيّة المغلقة، إذ يرقد الوحش وراءها من الجهة الضاغطة، وبالتالي فأن الفطرة الفنية لدى الفنان، جعلته يرسم ذلك الكابوس بلوحات تشير إلى القضيّة الأزلية التي لا يتركها الفنانون إلا وهم يؤكدونها في كل محفل، فنجد الحقول والأنهار والطيور وبيت المقدس والزي المحلي للنساء والرجال، والكثير من المفردات الشعبيّة والتراثية والأشجار والأغصان وجِرار الماء والطابوق والبيوت القديمة والشيوخ والشباب، في التأكيد على الانتماء الصحيح إلى الذاكرة الفلسطينيّة التي لا يمكن مغادرتها تحت أقسى 

الظروف.

 ومن ثم توطيد الانتماء إلى الأرض، بما فيها من موجودات تاريخيّة وحضاريّة وتراثيّة، لاسيما لو عرفنا بأن الفنان وائل هو رسام فطري، لم يدرس الفن التشكيليّ، لذا نجد بصيرته قارّة على ألوان البيئة ومحتوياتها الشخصيّة، من دون إدخالها في رموز وإيحاءات، فجاءت الواقعية في رسوماته، ممهدة لألوانه الطبيعية في اختزال الحياة الفلسطينية، ومن ثم تعميقها في الذاكرة بكثافة فنية لا تبارح ذاكرته ولا الواقع المشتت بين الغياب القسري والوجود الاضطراري في تعبيريّة فنيّة، تستدعي الماضي القريب والبعيد، وتشير إلى الغد الأكثر نقاء كما في معرضه " أشرعة الأمل" ومن هذا يمكن استشفاف أن المدينة المسحورة - القدس ليست إنتاج اللاوعي المغيّب، بل هي صيرورة الوعي الجمعي الفلسطيني الذي لا يغادرها في أحلك الظروف وأكثرها مرارة.

ويقيناً فأن اعتماد الفنان وائل على مرجعيات فوتوغرافية في أغلب الأحيان، إنما هو لإبقاء اللحظة التصويرية على تاريخها الشخصيّ، وبدلاً من إغراقها  في الشطحات اللونيّة، تبرز قيمتها الاعتبارية من وجودها الحي الذي يحرّكه الفنان عبر ريشته، كما تبرز قيمتها الرمزيّة في تاريخيتها الفذّة، لا بطريقة إغراقها بالرمز الفني، إنما بطريقة الإيحاء الرمزي، الذي يتآلف مع الموضوعة التاريخية، ويجسّدها 

تشكيلياً. 

وبالتالي فأن هذا الفنان الفطري تقدم - اعتبارياً- على المدارس الفنية في التشكيل، ولم يدرسها أكاديمياً، ففطرته وباصرته العميقة لما آل اليه الوضع الحياتي والوطني منحه فيضاً من الإبصار الفني والموهبة اللماحة في تشكيل الحياة الفلسطينيّة عبر اللوحة، وألوانها العميقة التي لابد وأن تنفذ إلى قلب التلقي العام. لما فيها من استحضار قوة إنسانية متكاملة وجرأة في توصيف التاريخ الوطني الذي لا ينساه أحد. وقد نجد مفتاح البلاد في كل بيت فلسطينيّ مغترب ومهجّر برمزيته القادرة على تربية أجيال تتناوب في محنة الاحتلال الصهيوني الوحشي. وهو ما أشار الفنان إليه في بعض لوحاته، وهي تستدرج الماضي لربطه في الحاضر، كشراع للأمل الذي لابد وأن يأتي وتتحرر البلاد والعباد من هذا الكابوس الطويل.

ولد الفنان وائل ربيع في 1970 بمخيم الأمعري للاجئين الفلسطينيين في الضفة الغربية. وهو لاجئ من قرية لفتا المقدسية المهجرة عام 1948، وهو عضو في الإتحاد العام للفنانين التشكيليين الفلسطينيين، شارك في معظم المعارض الفنيّة المحليّة والإقليميّة الجماعية والفردية، كما وله أعمال فنية كأغلفة للروايات وبوسترات جدارية.