إشكاليَّة الهويَّة المزدوجة

ثقافة 2024/01/07
...

 باقر صاحب


تنتمي روايةُ (الحفيدة الأميركية) لإنعام كجه جي، نسبياً إلى الأدب الذي يتناول الإرهاب اليومي في العراق. العنوان يمارسُ غوايتهُ في قراءةِ الروايةِ والبحثٍ فيها، لاسيما تعالقُه بالحدث المهمِّ في تاريخ البلاد، ألا وهو الاحتلال الأميركي عام 2003.الوضع العراقي المعقَّدُ والملتبسُ ومخلفاتُ النظام الدكتاتوري المباد، خلقت حالةً أشدَّ حراجةً في تاريخ المغتربين العراقيين في المنافي، وبعضهم لاجئون في أميركا فرّوا في سنوات التسعينيات من القرن الماضي أو قبلها، حصلوا على الجنسية الأميركية. تغوصُ الروايةُ في إشكاليةِ الهويَّةِ بين وَطنين مُختزلين في صورتي الحلمِ الأميركي والحنينِ العراقي، ولمن يتغلب الولاء في النهاية.الحفيدة الأميركية هي (زينة) بطلة الرواية الشابة، حفيدةُ عقيدٍ في الجيش العراقي، وأبوها مذيعٌ في ذلك العهد، يُسجن ويُعذَّب إثر وشايةِ أحد زملائه في العمل، حين تذمَّرَ من طولِ نشراتِ الأخبار ومللِ الناس منها، قرَّرَ بعدَ خروجهِ من السجن، مغادرةَ العراق نهائياً، هو وزوجته وابنتهما بطلة الرواية وأخوها، ألم نقلْ إن كلَّ مشكلاتِنا عقّدها النظامُ المباد.

تعمل الحفيدةُ على العملِ كمترجمةٍ في صفوف الجيش الأميركي المتواجدِ في العراق، متنقلةً بين مدينة تكريت- مركز محافظة صلاح الدين- والمنطقة الخضراء في العاصمة بغداد، بالإضافة إلى مدينة الموصل- مركز محافظة نينوى، تسعى متنكِّرةً إلى لقاء جدتها (رحمة) التي بقيت في بغداد. وبعد ما علمت الجدَّة بطبيعةِ عملِ حفيدتِها لامتها أشدَّ اللوم على عملها هذا، عَدَّته خيانةً للوطن، مثلما تنقلُ البطلةُ أصداءَ تجنيد العراقيين المقيمين في ديترويت، كمتعاقدين في صفوف القوات الأميركية، التي ستُسقط نظام الحكم البعثي في العراق. أصداءٌ هي صراعٌ بين هويتين، فتقول: “أناس يشجِّعون ويزيِّنون التجربة، وأناسٌ يديرونَ الوجوهَ ويبصقونَ ويحذِّرون من خيانةِ الأرض، التي شربنا من دجلتها وفراتها، حتّى ولو لصالح أرضنا الجديدة التي تسقينا الكوكا كولا صباحَ مساء”، الرواية- ص 17 . لكنَّ بطلةَ الروايةِ لم تقتنعْ بعدمِ صوابِ حماسها للعمل كمترجمة، فهي تسهمُ في تغييرِ الحالةِ العراقيةِ، فضلاً عن إيفاء دينٍ للوطنِ الجديد أميركا، واعتباراتٍ شخصيةٍ  مثل تحسينِ الوضعِ المادي، إذ تعاقدَ المتطوعون برواتبَ مغريةٍ جداً، تجعلهمْ  يتجاهلونَ مخاطرَ الموتِ أو الإعاقة، إنَّها باختزال؛ المغامرة. بل تعتبرُ نفسها، موقنةً من ذلك أشدَّ اليقين بأنها” ذاهبةٌ في مهمةٍ وطنية”، ص18.ومن الملاحظِ أنَّه كلَّما برزتْ مجسّاتُ الصراعِ بينَ الهويَّتين، تبرّرُ لذاتها، بأنَّها ستخدمُ وطنينِ في مهمتِها تلك، وتريدُ كجه جي من ذلك صعوبة إقناع القارئ من قبل البطلة بذلك. فهي مؤمنةٌ بالوهمِ الأميركي، بأنَّ أوضاعَ العراقيين ستتحسنُ حالاً، ويتمتعونَ بالحريةِ، والرفاهية، فحتى الشيخ سيعودُ صغيراً. ولكنَّه الوهمُ المبطَّنُ بالإغراءِ المالي الخيالي.ولأجل خلقِ عمقٍ في الإقناعِ الذاتي بالمهمة المقبلة، تتذكَّرُ أحداثَ 11 ايلول 2001، حينما صُدم الأمريكان بما جرى، فهي ترى أنَّ عمقَ مهمتها مرتبطٌ بمكافحةِ الإرهابِ وداعميهِ في كل مكان، من أنظمةٍ شموليةٍ قامعةٍ للحريات، مثل النظامِ الصدامي في العراق آنذاك. ومن هنا تبريرنا في زجِّ الروايةِ في  دراساتِ هذا الكتاب، بوصفِ مهمةَ البطلةِ بأنَّها تسهمُ في الحربِ ضدَّ نظامٍ إرهابي، بتقدمِ فصول الرواية نشعرُ أنَّ البطلةَ تشعرُ أنَّه من الضرورةِ الفصلَ بين النظامِ والشعب، وبأنَّ ليسَ كلِّ قطاعاتِ الشعبِ تؤيُّد تلكَ الطريقةِ في إسقاطِ النظام، ويَعدُّونه غزواً ليس إلاّ.

نرى البطلة أيضاً في حالةِ هبوطٍ معنويٍّ مستمرٍّ سببهُ الخسائرُ المتصاعدةُ في صفوف الأميركيين، وكذلك الشحذُ المستمرُّ لمشاعرها الوطنية إزاء بلدِها الأوّل، بعدَ كلِّ لقاءٍ مع جدَّتِها (رحمة). ولكي تُحسنَ  كجه جي، التي رُشِّحت روايتُها (النبيذة) إلى القائمةِ القصيرةِ لجائزة البوكر العربية لعام 2019، في نسجِ خطوطٍ متقنة تصبُّ في خلقِ انقلابٍ نفسي وتحولاتٍ نوعيةٍ في حياةِ البطلة، زجّتْ بساردٍ عليمٍ، لن يظهرَ كثيراً في الرواية، عبر شخصيةٌ تسمّى المؤلِّفة، وكأنَّ البطلةَ انقسمتْ بين ذاتين؛ الراوي العليم المتجسِّدُ فيها وذاتُها الأخرى المؤلِّفة، فتناكدُ  تلك المؤلفةُ البطلة، وتتّهمُ الأخيرةَ بإزعاجها، وأنّها تفتعلُ المواقفَ لكيْ تكتبَ روايةً وطنيةً على حسابها.

هناك خطوطٌ سرديةٌ أخرى تمثِّلُ طبيعةَ التعايشِ والانسجامِ بين المكوِّنات العراقيةِ منذُ القدم، (طاووس) مثلاً، امرأة مسلمة من مدينة (الصدر) تعمل كخادمةٍ شاملةٍ تعتمدُ عليها عائلةُ (زينة) المسيحية في كل جوانب حياتها، وإذ تُصابُ والدةُ البطلة، ب (التيفو)، تُرضع طاووس زينة عندما كانتْ طفلةً  بعمر شهرين، فيصبح أبناؤها الستة إخوةً لها، أحدهم واسمهُ (مهيمن)، فوجئتِ البطلةُ بمعاملتهِ لها كأخٍ كبيرٍ لها، وتعلّقتْ به بما يشبه خروجاً عن الحبِّ الأخوي، ولكنَّه ظلّ أخاً حنوناً على الرغمِ من عدم رضاهِ عن عملها مع الجيشِ الأميركي. 

مهيمنُ والجدةُ التي تموتُ بحسرتِها من مأزقِ حفيدتها، كما تقول زينة، جعلاها تقرِّر عدمَ تجديد عقدها والعودةَ إلى أميركا. كما انتصرتْ ذاتُها الأخرى عليها كأميركيةٍ متمأزقةٍ بين وطنين: “تعبتُ وتعبَ مني الكمبيوتر. ضاقَ بطباعِ المؤلفة. أرادتْ أنْ تلحقَ بي إلى ديترويت. تتبعنُي حتى آخر رمقٍ. تسجّلُ اندحاري قبلَ أنْ تنهضَ عن طاولةِ الكتابة. تمطُّ ذراعيها وتفردُ ظهرَها وتصفِّق جذلاً. تشربُ نخبَ انتصارِها على الحفيدةِ الأميركية”،  ص193.