زهير الجبوري
تثيرنا دائما تجربة الفنان التشكيلي العراقي صبيح كلش، لأنها باختصار شديد تنطوي على مرجعيات مستعادة من الأرث ومن حفريات الأثر الرافديني، وأعني هنا محاولة خلق موضوعات غاية الدقة والمعاصرة، وقد قدم مشروعه بشيء من المهارة والمغايرة في أماكن عديدة، كالمعارض الشخصية أو المشتركة، ليبرهن ان الفن التشكلي العراقي له هويته الخاصة مهما امتد به الزمن، ومهما كانت هناك مشتركات جديدة تضاف الى الفن ، حتى أن الأدوات الحديثة التي تكمل العمل التشكيلي كـ (العجائن والألوان والأشياء المهملة والكولاج) لا تقف بالضد في اختيار المضمون بوصفه مرجعا فنياً، فالرؤية المعاصرة في ظل ما تسير به عجلة الزمن كفيلة بقراءة الفنون قراءة معاصرة.
تتضح في لوحات (كلش) العلاقة الوجودية للخصب، وللفعل الأيروتيكي، وقد بانت من خلال استنهاض العلاقة الرمزية للثيمات المرسومة في كل لوحة، وهذا ما جعل المتلقي في انتباهة واضحة حين يلمس أن للجسد الأنثوي شحناتٍ تستوجب الرغبة من قبل الآخر المتمثل بالرجل ذي الفحولة المشتهاة عبر حركة الجسد، وهي علامة سيميائية معبرة عن ملحمة الوجود البشري منذ الأزل، والفنان لا يدع اللحظة تهرب منه وهو يلتقط حالة من الوجود الحياتي (الأنثربولوجي). بمعنى أن وظيفة الجسد في هكذا حالات تنتج أداءً جماليا له خصوصية فنية في التخطيط والرسم واللون، اضافة إلى مكملات العمل/ اللوحة، فالغور في الأشياء التي تمس الرغبة وتثيرها، هي ممارسة حسية جاذبة، بل عميقة إلى حدّ اقترابها للتأويل، فالفنان التشكيلي لغته في قراءة الأشياء، لغة بصرية، مهما ذهب بعيدا أو كان محدودا، فإنه يطرح مشروعه عبر هذه القراءة البصرية.
يمازج كلش الموروث المكاني بالأثر الرافديني، وهي لعبة ادائية ملفتة للنظر، بل فيها توازن في ثيمات العمل، حيث تظهر على السطح التصويري استعارة اللوح المنقوش، الذي تتمتع به الكتابة المسمارية أو البابلية، تجاوره (الشبابيك/ التعويذة/ البسملة/ الديك/ أوراق العنب/.. الخ)، لتتضح أمام المشاهد وحدة العمل الفني/ التشكيلي بمنظورقابل للتلقي.
إن طريقة الفنان في هكذا أعمال كفيلة لجعل القيمة الفنية محافظة على هوية التشكيل العراقي في زمن تتشظى فيه الهويات والأنتماءات، وليس غريبا على كل فنان درس على ايدي كبار الفن العراقي أن يقدم تجربته بالشكل الذي ظهر عليه كلش، وهذا دليل قاطع على أن اللوحة التشكيلية العراقية حاضرة بعمق جذورها التاريخية ومعاصرتها الآن.
أما ما يخص أعمال الفنان التي تتأطر بالحرف والرقم العربي، فهي امتداد طبيعي لوحدة الأطار الفني من حيث اللعب بالأشياء وبالتقنيات الثيمية واللونية معاً.
ويبقى السؤال المطروح، إلى أي مدى يريد الفنان الوصول إليه في ضوء ما طرحه بعض الفنانين الذين سبقوه..؟ ربما هناك غاية أو قصدية..! لكني أرى ـ من وجهة نظر خاصة ـ أنها طريقة فنية تتمتع بجمالية الشكل وما يتمتع به من مضون لوني وعلاماتي، بخاصة أن الأشتعال على الحرف هو الأشتعال على البعد الواحد (كما يذكر اصحاب الشأن) على الرغم من قناعتي في أن هناك طرق جمالية تستنهض الحرف وتعطيه بعدا جماليا كبيراً.
التشكيلي صبيح كلش، يستخدم الألوان الحارة والضوئية والقانية ـ في الغالب ـ لأنه يدرك أهمية بروز هذه الألوان على قدر كبير من وضوح المنظور، ما يثير الانتباهة والتوازن الحاصل بين وحدة الموضوع والنسق اللوني، لذا تأتي القياسات منضبطة عنده في كل عمل، وتأخذ عمقها التأملي في الغور بعمق ما مرسوم، كما نلمس لعبة التدرج الهارموني واضحة، ولعل الخبرة وممارسة العمل التشكيلي بشكل متواصل تفتحان الآفاق في النضوج، والفنان هنا يدرك مدى أهمية الألوان وطرقة توظيفها، حتى في بعض لوحاتي حين يستخدم بعض المخلوقات الحيوانية (الديناصور.. والثور.. الغراب) يمسك بتكوينية الكائن وعمق الألوان التي يرسم فيها هذه المخلوقات.