رولا حسن
اعتمد مصطفى الحلاج في أعماله ثنائيات التناقض، بدءا من اللونين الأسود والأبيض في إشارة إلى ثنائيات أخرى كالموت، والحياة، والوجود، والعدم.
عاش الحلاج المولود في قرية "سلمة" قضاء يافا عام 1938، لمدة عشرة أعوام فيها قبل أن يُهجر من قبل الصهاينة، بعدها انتقل إلى مصر حيث أكمل دراسته التي انتهت بكلية الفنون الجميلة في القاهرة.
غادر الحلاج القاهرة التي قدم فيها أول معرض فني فردي وعاش متنقلا ما بين تونس وبيروت التي تركها هي الأخرى إثر الاجتياح الإسرائيلي لها ومن ثم استقر في دمشق.
ينتمي الحلاج إلى جيل الشتات والقهر، ولكن شهرته كفنان لم تأت من كونه فلسطينيا واعياً بعمق قضيته فقط، بل لأن فنه كان جداريات جمالية محفورة تنتقل بعمق المعنى والقضية من الواقع المعاش إلى أبعاد أبعد بكثير.
ومن هذا المنطلق كان تبنيه لفلسفة رمزية بأبعاد واسعة، حيث حول كل ما يفيض به وجدانه وتزدحم به ذاكرته لرموز ودلالات تشير إلى التغريبة الفلسطينية بشكل خاص والنفس البشرية بشكل عام، لذا تعتبر أعماله ذات مناخات سياسية لارتباطها ارتباطا وثيقا بحركة النضال الفلسطيني.
وقد ساهم بذلك إثراء لتجربته بحكم تنقله بين بيروت والقاهرة وتونس ودمشق، فحمل في داخله رواسب الحضارة الفرعونية والكنعانية والفينيقية، الأمر الذي ساعد في خلق فضاء تشكيلي شديد الخصوصية، فنراه يحشد في أعماله من البشر والرموز والدلالات لتبدو اللوحة وكأنها معجم بصري وبالتالي فضاء فلسفي وسياسي حتى ندرك عبر بصيرته ماهية أنفسنا.
"هناك شيء غامض أرسمه لأكتشف غموضه".. هكذا تبدو أعمال الحلاج في الحفر، وكأنها معاجم بصرية ضخمة تدور أيضا في أفق الرموز غير المألوفة، إلا أنها تعتبر سريالية، لكن سرياليته خاصة.
ثمة شيء مخيف في اللوحة إنه اللا مرئي في التجربة.. فما أن تدخل إلى اللوحة حتى يطالعك نساء ورجال يحملون أمتعتم، إنه الرحيل تغادر معهم الحيوانات، امرأة عارية مستلقية، حصان يصرخ، رجال مسنون، حصان بجسم إنسان، نساء بأوضاع مختلفة أيديهم مقيدة إلى الخلف، رجل برأس حمار.. مجموعة نساء يتقدمهم الحلاج بعصاه، رجل بجسم طير، أنه مناخه البصري الغامض، بكلمة أخرى نص بصري مفتوح مشحون بالدلالات، وهذه الدلالات رغم رمزيتها واعية وعاقلة تميزت بقدرة الرائي على الفهم والتفسير.
لقد عبر الحلاج ببراعة عن الذات الفلسطينية المقاومة، سواء على جبهة القتال أو جبهة المقاومة الثقافية وعلى مساحة اللوحة كجبهة، حيث نجد فلسطين تمتد في إيقاعات تشكيلية معبرة بدقة منطقية رغم رمزيتها عن مسيرة الحلاج كفنان وكلاجئ سياسي.
ففي لوحة فلسطين، ولوحة معركة الكرامة، يظهر المحتوى السردي موظفا ببراعة لخدمة فلسطين بجميع تداعياتها السياسية وقضاياها الوجودية، وتتجلى فلسطين بدقة متناهية مستخدما بذلك أدواته، سكاكين، مسامير ليحفر في ذاكرة التاريخ تجربة نضال واعية ومنطقية. وبالرغم من أن الحلاج اتقن الرسم على الورق باستخدام الحبر والرسم على القماش باستخدام الزيت، والرسم بالأقلام الخشبية والباستيل، إلا أنه تفرد في الحفر على ألواح المازونيت التي منحته آفاق كبرى، وقد شرع بتنفيذ مشروع حياته الذي بدأه في تونس 1996، وهي لوحة طولها 114 متر وعرضها 36، أراد لها الحلاج أن تدخل موسوعة غينس كأعرض جدارية
في التاريخ وأطلق عليها إرتجالات الحياة.
ابتكر الحلاج تقنيات فنية خاصة به، وشكل شخصية مستقلة، وهو في طريقة تفكيره هذه يعيد دائما خلق ما يكتسبه فنيا ومعرفيا بالأشياء من أبعد زواياها، ربما ساهم في ذلك ما تراكم من طفولته وتجربته، فقد اقتطع من مكان كان جزءا منه يعيش فيه بين بيارات البرتقال، وأتت لحظة نقلته سيرا على الأقدام إلى رام الله وبهدها أريحا، دمشق، بيروت، القاهرة، تونس، ومنذ خروجه من فلسطين لم يفقد وطنه فقط، وإنما قريته التي دمرها الاحتلال، وهجر أهلها بما في ذلك شجرة البرتقال التي لعب تحتها وهو لا يزال طفلا.
قضى التشكيلي الفلسطيني نحبه محترقا مع أعماله إثر حريق شب في مرسمه، مرسم ناجي العلي بدمشق، والذي أتى عليه وعلى معظم أعماله فينتهي هو قبل أن ينهي عمله إرتجالات الحياة.. بهذا القدر من المأساوية رحل الحلاج في 17 ديسمبر 2002 بعد أن حمل وطنه في قلبه كل هذه السنوات وأفرد له فضاء واسعا من تجربته التشكيلية.