محمد صابر عبيد
عمل مثقفو وأدباء الأقليّة على التصدّي للغة الأكثرية من داخلها والسعي إلى اختراقها بوساطة التمكن الكبير منها، ومن ثم الانقلاب عليها وتفكيك هيمنتها، فشاعر مهم مثل سركون بولص أحد شعراء الأقليّة السريانيّة في العراق (من جماعة كركوك الأدبيّة الشهيرة) كتب شعره بالعربيّة (لغة الأكثرية)
لكنّه اتجه إلى كتابة قصيدة النثر في وقت مبكّر، على الرغم من أنّه يُتقن (علم العروض العربيّ) وبوسعه الكتابة على أصول الشعريّة العربيّة المعروفة، سواءً على الشكل التقليديّ أم شعر التفعيلة، لكنّه آثرَ قصيدةَ النثر لأنّها نموذج الأقليّة، متنقّلاً بين مدن العالم حتى بلغ مدينة من مدن العولمة المركزيّة (سان فرنسيسكو) ومات ودفن جثمانه فيها تعبيراً عن الانتماء إلى أرض العولمة وترابها وجنّتها.
وكان على الصعيد الإيقاعيّ يكتب في بعض قصائده مقاطع شعريّة على بحور الخليل لكنّه يسعى إلى إعدامها إيقاعيّاً، على النحو الذي يظهر لك هذا المقطع عند قراءته وكأنّه خالٍ من أيّ وزن شعريّ مع أنّه مكتوب على بحر شعريّ عربيّ أصيل، ومن ثم في القصيدة نفسها يكتب مقطعاً بلا وزن ولا قافية (قصيدة نثر) ويحشده بالإيقاع، بحيث تشعر عند قراءته وكأنّه مكتوب على أحد بحور الشعر العربيّ لبروز غنائيّة واضحة وظاهرة فيه، في محاولة للتأكيد على نزع خصوصيّة الأكثريّة في الانتماء إلى قصيدة عربيّة مكتوبة على بحور الخليل منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمن.
فعل هذا أيضاً الشاعر سليم بركات في مجمل شعره ورواياته مُنتصراً لكرديّته على حساب لغة الأكثريّة (العربيّة) التي يكتب فيها، ونحسب أنّه لا يوجد أديب من أدباء الأقلّيات من لم يفكر بهذا ويعمل عليه كلّما وجد ذلك مناسباً وفاعلاً وضروريّاً.
إنّه نوع من إعلاء صوت الأقليّة على صوت الأكثريّة بطريقة فنيّة؛ لا تلفت الانتباه كثيراً تسير في طبقة باطنيّة من طبقات الحركة والضوء
والانتقام.
من الأساليب الأخرى في هذا السياق العمل على توسيع هامش (العامّيات) والتركيز عليها بديلاً للفصحى في المدوّن الكتابيّ، إذ سعى بعض مثقفي الأقليّة (في العراق مثلاً) إلى محاولة ترجمة بعض مسرحيات شكسبير إلى اللهجة العامّية العراقيّة، وأذكر أنّ أحد أصدقائي من هؤلاء حدثني أنّ الروائيّ والمترجم الشهير جبرا إبراهيم جبرا كان من المشجّعين على هذا التوجّه إحساساً منه بهذه المحنة، وهي محاولة أخرى لتنحية سلاح مهمّ من الأسلحة التي تستخدمها هويّة الأكثريّة ضدّ هويّة الأقليّة، في سياق التركيز على (فصاحة) اللغة العربيّة لأنّها هي هويّة الأمّة وعنوان تقدمها وتطورها وأصالتها، لها ذاكرة تكتنز بمنجزات حضاريّة لا حصر لها.
الوطن بوصفه مفهوماً ذهنيّاً مجرّداً هنا يرتبط عادةً باللغة، فمن لا لغة له لا وطن له، ولغة الأكثريّة هي وطنهاـ بكلّ ما ينطوي عليه المعنى من مركزيّة واستحواذ ـ ولا وطن آخر لغيرها في المكان نفسه، لذا فإنّ أزمة البحث عن وطن بديل تمثل واحداً من أهمّ هموم الأقليّة وأصعبها وأخطرها، ولعلّ التاريخ العربيّ يشهد على هذه الأزمة الحقيقيّة؛ حين ذهب كثير من أدباء ومثقفي الأقلّيات إلى التَفَقّهِ في اللغة العربيّة وعلومها وفنونها حتى تفوّقوا على أهلها، في سعي حثيث ومحموم لتجاوز هذه الأزمة وتفتيتها؛ والتأكيد على أحقيّة جودة اللسان والبيان في وطن اللغة لبناء اللغة لهم ولغيرهم.
إذ إنّ ممارسة اللغة على هذا النحو البارع والمتفوّق والحديث أعادت الاعتبار للأقلّيات في عصور كثيرة في التاريخ العربيّ، وحصد أدباء الأقلّيات ومثقفوها مواقع ومناصب سياديّة استثنائيّة عوضّت نقص الهويّة، لكنّهم مع ذلك كانوا يتحيّنون أيّة فرصة ممكنة ومناسبة للتعبير عن هويّتهم المقموعة الساقطة في اللاشعور؛ حتى وهم يتسيّدون مناصب ومواقع عُليا داخل بيت الأكثريّة، لا يشفع للأكثريّة هذا التسامح وهذه الديمقراطيّة حين يكون بوسع الأقليّة الناقمة استثمار فرصة الانتقام.
إنّ العودة إلى شعراء العصر العباسيّ من غير العرب وقراءة سيرهم وأشعارهم قراءة ثقافيّة فاحصة ذات صلة بهذه الرؤية، ورصد إشكالية هويّة الأقليّة في طرائق تفكيرهم ورؤيتهم في الحياة والأشياء وموقفهم من العالم، تكشف على نحو عميق وأصيل فعاليّة سعيهم الجارف إلى تفتيت القيم الاعتباريّة الكبرى في مجتمع الأكثريّة وثقافته؛ وتشجيع الخروج والتمرّد على هذه الثقافة، وقد نجح بعضهم في تفكيك صلادة البنية التقليديّة التي تعود لملكيّة الأكثريّة، وفرض نموذج التمرّد والثورة وكسر شوكة الهيمنة والتسلّط بوسائل كثيرة؛ بعضها مباشر وبعضها الآخر غير مباشر، حتى أضحى لهم حضور وتشكيل وبصمة ومنهج وفضاء ورؤية؛ تُحسبُ لهم وتزيد من قوّتهم الكامنة في غفلة من صوت الأكثريّة القاهر الذي لا يسمح -حين يعي- بأيّ خرق في أركان منزله المحصّن مهما كان
بسيطاً.
أمّا على الصعيد المهنيّ الاجتماعيّ فإنّ هويّة الأقليّة تتمثّل في انتخاب مستويين متناقضين من المهن التي يمتهنها أصحاب هذه الهويّة، تمثّلَ المستوى الأول في اختيار المهن المفصليّة العليا ذات الطابع الاقتصاديّ المميّز، فمعظم صاغة الذهب والمشتغلين في حقل تجارته مثلاً هم من الأقليّة (ولاسيّما السريانيّة)، وعلى العكس من ذلك اتّجه القسم الآخر منهم إلى المهن الحقيرة الدنيا، وكأنّهم شاؤوا – على نحو رمزيّ - بوساطة اشتغالهم في منطقتين متناقضتين تأسيس حضور مهمّ في أقصى منطقة الثراء، وتحقيق حضور آخر موازٍ له في أقصى منطقة الفقر، لتكريس وجودٍ ما يحيط بالمجتمع من أقصاه إلى أقصاه، هم فعلاً بأمس الحاجة إليه.