رغد السهيل تفتح أبواب الحب.. الحرب والحرية

ثقافة 2024/01/09
...

 باسم عبد الحميد حمودي

 

تقدم رواية الدكتورة رغد السهيل (منازل ح17) تجربة شجاعة جديدة شديدة التعقيد، وإشكالية الطرح الفكري الذي حصل بين التجمُّعات الدينية والفكرية في مدن إيران وتركيا والعراق وأفغانستان  والحواف المدينية الأخرى من الشرق الأوسط، في مناخ لغة تتحرك بمهارة وسط الاختلافات القائمة من دون أدانة أو تأييد.

جاءت تجربة الرواية تتويجاً لقدرة السهيل على اجتياز «تابو» العقيدة الدينية من دون مسٍّ بالأصول. 

وذلك بالتحرك ضمن مهارة في الإفصاح والمواربة على خوض تجربة التدوين الروائي لرسم شخصية الشاعرة الإيرانية فاطمة البارغاني- رزين تاج بنت العالم الديني الكبير صالح القزويني، عالم مدينة (قزوين) ومترجم القرآن الكريم لغة إلى الفارسية.

 تدعى الشاعرة والداعية الفكرية أيضاً قرة العين (1815-1852) وهي صاحبة المنديل الأزرق الذي صاحبها حتى اختفائها جسدياً.

 وليست هذه أول تجربة درامية تكتب عن هذه المرأة التي خرجت عن المألوف العقيدي الديني لتؤكد على وحدة دين البشر.

قدمت الكاتبة الروسية أيزابيلاجرينسكايا مسرحية (الباب) على مسارح موسكو عامي 1902 -1916، وانتجت الفنانة شام فاوي في فرنسا فلماً في مايس 2016 عنها مدته 57 دقيقة بعنوان (اللهب)، وقدم راسل جينا غارسيا عنها أوبرا(النيران الجامحة) عن حياة قرة العين وتجاربها الفكرية  التي لا تتفق والمألوف المتفق عليه من مسلمات.

 فصول رواية (منازل ح 17) تتابع بلغة شعرية ووثائقية معاً حياة  السيدة رزين تاج القزوينية  وهي تتقلب عقيدياً من فكر لآخر فارضة على ذاتها نوعاً من الصبر والقدرة على مقاومة الآخر المحيط ومواجهته بعدد من أساليب الخطاب الذاتي والعام.

كان الشعر الصوفي والشعر الحسي دالتين من وسائل التضجيج والإبلاغ. 

وكانت الأدعية والتراتيل وسيلة أخرى، يعلو كل كذلك أو يجسِّده  صوت أدائي جميل يسحر المتلقي ويشده إليه.

في بغداد عندما قدمت من كربلاء محبوسة - كمثال – وضعوها في بيت مفتي بغداد قائد السنة الديني (أبو الثناء الألوسي)، لأن السلطة لا تريد وضع امرأة لها مكانتها في مكان عادي، 

فأودعتها لدى مفتي الديار العراقية المأمون، الذي جادلها في أفكارها وكاد أن ينصاع إليها كما يقول الدكتور علي الوردي في دراسته عنها.

كانت زوجة الألوسي قريبة منها تستمع إليها معجبة باحتراس. 

وكان والد المفتي أكثر الناس ضيقاً بوجودها في بيت والده حتى أمر السلطان العثماني واليه على بغداد بتسفيرها من الديار العثمانية إلى بلاد فارس حيث نشأت الدعوة.

 ويبدو ظاهراً أنه من غير الضروري أن نقارب مع الممكنات الروائية التي قدمتها السهيل بلغتها  الصافية التفاصيل التاريخية التي أحاطت بهذه الشخصية المثيرة، لكن سياقات الأداء في تصوير الأحداث تتطلب منا الوقوف عند بعض التفصيلات المهنية الخاصة بالديانة البهائية التي خرجت من عباءات الأديان السماوية مشكلة تنظيماً فكرياً جديداً يصنع لمعتنقيه فكرة وحدة الأديان و(تجمعها منصهرة) في  هذه الوسيلة الروحية الجديدة – القديمة التي دعيت (الدين البهائي).

في عنوان الرواية (منازل ح17) إشارة واضحة لعدد الأشخاص الذين آمنوا مبدئياً بـ (الباب) مؤسس الديانة وعددهم ثمانية عشر متسلسلين، وكان رقم قرة العين هو السابع عشر من الشخوص – المنازل. 

فهي الـ (ح) السبعة عشر من حروف الحي (الباب ربما) أو هم الثمانية عشر شخصاً كانوا ممن آمنوا بـ (قيام) الباب الموعود (في معتقدهم) الذي ظهر باسم (علي محمد الشيرازي) وكان قيامه بدء الدعوة للبابية التي حولها الداعية الأول (حسين علي نوري المازندراني) إلى البهائية وأطلق على ذاته اسم (بهاء الله).

وكان من  المبلغين الثمانية عشر الأوائل: باقر التبريزي- محمود باقر- حسين اليزدي (كاتب الباب)- وتأتي  فاطمة رزين تاج – أم سلمى – قمر خانم – قرة العين بالمرتبة السابعة عشرة من الثمانية عشر مبلغاً، لذا أطلقت السهيل على روايتها عنوان (منازل ح 17) لتؤكد على  تاريخية التسلسل الهرمي للدعوة الذي تجاوزته رزين تاح- قرة العين بإعلان وصول المبلغ بالدعوة من المخلص إلى تلامذتها ومريديها بقيام ما اعتبرته (الحق) وهو  قيام التكليف وأعلان علي بن محمد دعوته وأنه مجسد حروف الحي.

 ومن عجب أن الرواية تبدأ في الصفحات الأول منها وهي تصور طفلة في السابعة تدعى (قمر) أنها قرأت قولاً في (كتاب) الشيخ أحمد الإحسائي عثرت عليه في مكتبة خالها أن موعد (الظهور) قريب، وأن ظلم القاجاريين الحاكمين لأهل الدار لابد زائل.

هنا يثور والدها الشيخ رجل قزوين الأول عليها وينتزع منها الكتاب، وهو يصرخ رافضاً انصياع صبية إلى تطرف خارج المألوف الديني.

(فهمت قمر الزمان لاحقاً أن هناك مذاهب ومدارس فكرية تتباين في الرأي فداعبها حلم توحيد هذه المدارس) ص72.

هذه الجملة التقريرية كانت مبدأ حلم السيدة قرة العين التي تصاعد عندها وهي تنمو جسدياً وفكرياً وتتسع أمنياتها في صياغة نوع من التقارب المذهبي بين الإخباريين و بعد سنوات وإزاء صراعها الفكري مع زوجها الشيخ محمد أبن عمها شديد الغضب من أفكارها المنفتحة دينياً وهو رجل دين تقليدي يؤمن بأن النساء ناقصات عقل ودين، وهو يقول مناكداً زوجته الحسناء الرقيقة البيان أنكن لن تصلن إلى درجة الاجتهاد في الفقه، وهي الدرجة الأعلى  في الفقه الجعفري، لكنها تؤكد له إيمانها بالتجربة الروحية التي تعيشها وهي الإيمان بوحدة الأديان لا المذاهب فقط وهي تكتشف (قصر قامته إزاء طولها الفارع- ص84) ودمامته وغضبه الدائم منها، بل وتهريبه ولديها إلى كربلاء للدرس الديني  ليمنع  أمهما منهما، ثم عودتهما إلى قزوين بعد سفرها إلى كربلاء لإكمال الدعوة.

 ويوم قامت قرة العين في مؤتمر بدشت بإعلان سقوط التكليف، وأسفرت متغزلة بصبح الأزل ثم سبحت بعده هذا مع القدوس، دخل أتباعها في دوّامة من القبول والرفض لكنها استمرت ثابتة الجنان وكأنها في لعبة فكرية – دينية تنادي بالخلاص من الرزايا وقيام الطهر ساعية لتجديد العالم فكرياً ودينياً.

 خرجت قرة العين وأتباعها عن  الفكر الديني التقليدي، ولم تحتمل السلطات في بغداد واستنبول وجودها في كربلاء فأعيدت إلى فارس، حيث عذبت وسجنت بعد حماية متنفذ ثم أعدمت على يد زنجي مخمور، وضع منديلها الحريري قسراً في فمها حتى أزهق روحها.. هذا ما تقوله الروايات المتعددة.. لكن السهيل لا تثبته فقط، بل تصنع  لموتها- خلاصها صورة درامية أكثر شعرية.

في باب الحرية (المؤرخ طهران1269، للهجرة-1852 للميلاد) ص288، وما بعدها تقدم الروائية صورة الإعدام بيد الزنجي، وقرة العين تقول لذاتها لحظات الموت في القسم الأول من الباب: (أين أتباعي ما لذي حل بهم، أليس بينهم من يذكرني ويطرق بابي؟

أين ولدي؟

ولكن لا أحد معها  فقد حرمت من الجميع، وهي تموت على يدي المخمور.

 في القسم الثاني من باب الحرية تنقل الكاتبة عن شمس خانم عن أمها عنبر خانم عن الحاجة قمر عن أمها الحاجة زعفران – خادمة الطاهرة- أن السجينة فرَّت من بيت رئيس الشرطة واختفت بمعونة زوجة رئيس الشرطة.

وانتشرت الأقاويل في طهران عنها أنها جن أو نار، وأنها صعدت فرساً انطلق بها نحو عالم آخر.. رأتها زعفران على سطح القمر وأقسمت على ذلك في قزوين وتابع الناس وجوه القمر وهو يسير في منازله.

على الفرس البيضاء التي امتطتها ملكت الحرية (وقد بزغت من جوف الأرض سبع عشرة نجمة فضية تصاعدت وارتفعت حولها.. بدت كوشاح.. وأنسدل فوقها) وهي هي هنا طارت تسابق الريح لتمد كفها وتلتقط نجمة (وحين لمستها ارتفعت هي والنجوم إلى السماء واختفت للأبد).. بذلك تقدم الروائية صورة خلافية لنهاية قرة العين التي صنعت واتباعها ومريدوها  سمات عقيدة أخرى أنبنت على أسطح الأديان  السماوية بفعل بشري.