الشرق الأوسط وأوهام الطمأنينة

قضايا عربية ودولية 2024/01/09
...

علي حسن الفواز



تصريحات أنتوني بيلنكن وزير الخارجيَّة الأميركي عن الطمأنينة السياسيَّة للكيان الصهيوني تكشف- في حقيقتها- عن الخشية من تحوّل الشرق الأوسط إلى ساحة حرب مفتوحة، وإلى محرقة غاضبة لاتفاقات ومعاهدات إقليمية ودولية مع الكيان، بدءاً من معاهدة كامب ديفيد واتفاقية وادي عربة وليس انتهاء باتفاقية أوسلو، وبهذا فإنَّ هذا “الشرق السحري” سيفقد رمزيته ليتحول إلى شرق عسكري مكشوف على حروب لا تنتهي، وعلى صراعات يختلط فيها السياسي والأمني والتجاري بالأنثروبولوجي والطائفي والهوياتي، وبالتالي سيجد العالم نفسه أمام مأزق وجودي وأخلاقي تكون فيه أطروحات حقوق الإنسان، ومواثيق التعايش السلمي بين الشعوب والأمم أمام خروقات كبيرة، وخسائر كبيرة سيكون الكيان الصهيوني من أكثر الخاسرين فيها، لأنَّ جحيم الجماعات سيكون شمولياً، وطاقات التسلّح الإيديولوجي والعقائدي ستفتح مزاريب النار على الجميع، وعندها ستفقد ما تُسمى بـ”الحماية الستراتيجية” فاعليتها، وقدرتها على مواجهة تحديات معقدة تتجاوز الجغرافيا.

ما يفعله الكيان الصهيوني في فلسطين، وفي مناطق عربية أخرى هو العبث بالمفهوم الأخلاقي للطمأنينة، لأنه يمارس سياسات “الأرض المحروقة”، فالتطهير العرقي والعدوان المستمر وقتل المدنيين تجعل من البحث عن “الطمأنينة السياسية والأمنية” نوعاً من الفنطازيا، مثلما تُفقد الأنثروبولوجيا بوصفها “علم الأناسة” جدواها، وتجعل من حديث تلك الطمأنينة شبيهاً بـ”الكوميديا السوداء”، وستضع الشرق الأوسط أمام تحديات كبرى، سياسية ووجودية، ومعطيات قسرية تتضخم فيها صور “الهويات القاتلة والمقتولة” كما يسميها أمين معلوف.

هذا القتل الهوياتي سيمتد إلى خارج فلسطين والأرض العربية، وسيكون تورطاً في صناعة عالم “دوستوبي” تلعب فيه السياسات العنصرية والمركزية الغربية والنزعات الكولنيالية أدواراً بشعة، لصناعة مزيدٍ من الحروب والصراعات والأزمات، وربما إعادة إنتاج بعض أشكال وممارسات الاستعمار القديم والاحتلالات البغيضة، وعلى نحوٍ تتهدد فيه مظاهر “الاقتصاد العالمي” و”الرفاهية الغربية” و”الأمن الدولي” مثلما سيجعل من قوى دولية أخرى أكثر حضوراً في مواجهة المركزية الغربية، مثل الصين وروسيا، وسيُشجع دولاً أخرى على الانخراط في تحالفات إقليمية أكثر فاعلية في خدمة مصالحها الوطنية، بعيداً عما هو غامض في الحديث عن “الطمأنينة السياسية” و”التحالفات القلقة” وعسكرة الجغرافيا، وربما الخوف من الوقوع في فخاخ أزمات داخلية على شاكلة “الربيع العربي” أو التعرّض لإثارة صراعات طائفية وجغرافية هنا أو هناك.

حديث السيد بيلنكن عن الطمأنينة المُفترضة للكيان الصهيوني يدعو إلى إثارة الحديث الواقعي عن ضرورات الطمأنينة الشاملة للجميع، ومنهم الشعب الفلسطيني في الحصول على حقه السيادي والإنساني والجغرافي.