شباب يعيدون إحياء الأسطوانات وأشرطة الكاسيت
صفاء ذياب
كان العام 1877 نقطة انطلاق عالم الصوتيات على يد المخترع توماس أديسون بناءً على ما توصّل إليه المخترع الفرنسي إدوار ليون سكوت دو مارتنفيل بتركيب أول جهاز يستغل اهتزازات قلم على أقراص ورقية لتسجيل الصوت، من دون أن يفكّر في إعادة تشغيل الأصوات المسجّلة، عُرف الجهاز وقتها باسم الفونوتوغراف أو الغرامافون، الذي طوّره بعد مدّة قصيرة توماس أديسون ليكون جهازاً يمكنه إعادة تشغيل الصوت المسجّل، وقد سجّل الصوت على صفائح قصدير. لم يقف الأمر عند اختراع إديسون، بل تطوّر في العام 1925، إذ بدأ تصنيع الغرامافون بمحركات كهربائية فظهرت التسجيلات الكهربائية بصوت أكثر نقاءً ووضوحاً.
وعربياً، فقد كانت مصر الرائدة في إنشاء معامل التسجيل في العام 1890، وأولى البلاد العربية التي سجلت أسطوانات تجارية عام 1903 أو 1904 للمطرب عبده الحامولي. وبسبب احتكار هذه التجارة للشركات الأجنبية، فقد أسهم الموسيقار محمد فوزي في كسر احتكار الأجنبي لهذه الصناعة بإنتاج أسطوانات غير قابلة للكسر، بأسعار تقلُّ مرّتين عن أسعار أسطوانات الشركات الأجنبية. وهكذا ولدت «شركة مصرفون» العام 1958 وأنفق عليها محمد فوزي كلَّ مدخّراته من عمله في السينما والتلحين والغناء، بل تفرّغ لإدارتها من أجل أن يثبت أقدامها في أسواق الشرق الأوسط، غير أنَّ الحكومة المصرية لجأت العام 1961 إلى تأميم الشركة، وتعيين صاحبها على رأسها كموظف براتب شهري مقداره مائة جنيه فقط، الأمر الذي تسبّب لفوزي في الإحباط والإصابة بمرض نفسي وجسدي ليتوفى عام 1966 مأسوفاً عليه.
غير أنَّ اختراعات الأجهزة الصوتية لم تتوقف، ففي العام 1960، قدّم لو أوتنز اختراعه الجديد، ليتمَّ تطويره مباشرة على يد شركة فيليبس الهولندية التي عرضت للمرة الأولى العام 1963 شريط كاسيت سمعي، يقوم جهاز التسجيل بتحويل الموجات الصوتية بواسطة الميكروفون إلى موجات كهربائية وتسجيلها بعد تضخيمها على الشريط المغناطيسي. بعد ذلك يمكن سماع التسجيلات الصوتية من الجهاز حيث يعيد الجهاز الإشارات الكهربائية المسجّلة على شريط الكاسيت إلى موجات صوتية في مكبر الصوت.
لكنَّ هذا الأمر لم يطل كثيراً حتَّى تمَّ اختراع القرص المدمج CD الذي انتشر في ثمانينيات القرن الماضي، وبدأت شركات كثيرة بإنتاج مشغلاته بشكل رسمي.
وعلى الرغم من التحوّلات الكثيرة التي أدخلتها الرقميات الحديثة، وسهولة الحصول على التسجيلات الصوتية بعد انتشار الإنترنت، إلَّا أنَّ السنوات الأخيرة شهدت إقبالاً مغايراً من قبل الشباب، فقد عاد اهتمامهم بشكل واضح بأشرطة الكاسيت، لا سيَّما النسخ الأصلية منها، مع البوسترات التي كانت تطبع معها.. فضلاً عن الأسطوانات، والمحاولة لجمعها وتكوين أرشيف جديد لكلِّ ما هو كلاسيكي.. فضلاً عن عودة شركات كبرى، مثل (النظائر) بطرح ألبوماتها التي كانت تنتجها على أشرطة الكاسيت للبيع في مواقعها، حتَّى وصل سعر الكاسيت الواحد إلى 50 دولاراً، في حين وصل سعر البوستر الأصلي إلى 250 دولاراً، ومع ارتفاع أسعارها، هناك مهتمّون باقتنائها حتَّى لو تضاعفت هذه الأسعار.
وفي الوقت نفسه، أنتجت شركات الصوتيات أجهزة غرامافون وكاسيت جديدة تتلاءم مع التقنيات الحديثة، لكن بشكلها الكلاسيكي المعروف.
فما الذي دفع الشباب لهذه النوستالجيا؟ وما تأثير التقنيات الحديثة على عودة هذا الشكل الكلاسيكي لعالم الصوتيات؟
مزاج خاص
يتحدّث الدكتور محمد فاضل المشلب عن ذكرياته حين يصدر ألبوم لنجم أو نجمة، تُضفى حالة من الجمال العام في مدينتنا، كما حين تمَّ الترويج لألبوم أمير الحب لهيثم يوسف في العام 2000 أو قصّة حبيبين لكاظم الساهر في العام 2002 أو ليلي نهاري لعمرو دياب لاحقاً في العام 2004.
مضيفاً: هي حالة مزاج لدى بعض من شرائح المجتمع، الذين كانوا يواظبون على اقتناء الألبومات، بحسب توفّرها؛ نسخاً أصلية أو مستنسخة، لاسيما في التسعينيات من القرن الماضي حيث ظروف الحصار الاقتصادي، حالة مزاج في العودة لإحياء نمط خاص من العيش، واستعادة ذكرى ما، لشخص غادر أو أمكنة لم تعد كما كانت... شخصياً كنت مندهشاً بعد العام 2006 من توفر أجهزة الموبايل على ذاكرة خاصّة أضع فيها ما أشاء من أغنيات أحبّها، خلاف الكاسيت الذي يكون محدود المحتوى الغنائي، وتوالياً مع السنوات، صار الشعور يتجه لاقتناء الكاسيتات أو الأسطوانات كما في السابق، حيث كان مشوار الذهاب لمكتب التسجيلات الصوتية بحدِّ ذاته متعة، واقتناء ما نرغب. أي أنَّ هنالك عملية شراء لمحتوى تجاري اسمه (ألبوم غنائي)، وكم كان أكثر متعة لو صار المشوار بعيداً لمكتب تسجيلات في مدينة أخرى واستكشاف ما يحتويه من ألبومات لأحد الفنانين المفضّلين.
من الطبيعي عدّ استعادة هذه الحالة مسّاً من النوستالوجيّا، لكنَّه في الوقت نفسه جذب مُستجد لإعادة اكتشاف ما سبق إن تمَّ سماعه، التركيز المادي عند تشغيل الكاسيت أجده أكثر مسكاً لدى الأذن الجيّدة منه في حالة الاستماع من المواقع الإلكترونية.
أمَّا في ما يخص الأسطوانات؛ غربيها وشرقيها، ففيه لمسة متخفّية كونها أعلى سعراً من الكاسيتات والسيديات الليزريّة، فالغرض من اقتنائها هو إضفاء سمة جمالية لأمكنتنا الخاصة، وبلا شك رفقة مجموعة من بوسترات الفنانين الأصلية أو المُعاد طبعتها. هي حالة مزاج خاص، البعض يراه ثانوياً أو لم يعد له معنى في عصر الذكاء الاصطناعي، والبعض الآخر فيه جيل تذّوق الموسيقى والغناء واشتراه واحتفظ به لسنوات طويلة وجاء الوقت ليعيد للمزاج حصّته، وللروح بعضاً من الطمأنينة.
قيمة المشاعر
وتشير مروة الجبر، وهي من المهتمين باقتناء التفصيلات القديمة من أنتيكات وأشرطة كاسيت وأسطوانات، إلى أنَّ الحنين أو النوستالوجيا التي يُصاب بها البعض كعرض جانبي لحالات الفقد أو الاكتئاب والحزن الشديد، ما هي إلَّا عارض صحّي ومؤشّر سليم على أنَّ الشخص يمتلك مقياساً جيّداً لما هو عليه الآن مقارنةً بما كان عليه في الماضي.
توصّل الباحثون إلى أنَّ حالة النوستالوجيا تدلُّ دلالات مباشرة على شخصية صاحبها، منها أنَّه شخص يحترم ذاته، متفائل، يبحث باستمرار عن معنى الحياة. وهذا يعود عليه بالتخفيف من الحزن وتعزيز المزاج عن طريق معاودة ذكرياته الدافئة وأوقاته الطيبة.
ولأنَّ أكثر الذكريات رسوخاً هي النابعة من الذاكرة الوجدانية التي لا تلتزم بمكان أو زمان، وانَّما تلتزم بما كلّ ما يثير العاطفة، لذا نجدها تتركّز غالباً في ذكرياتنا حول الموسيقى والأغاني وربطها بفترات وأشخاص تعايشنا معها على المدى الطويل.
فالنوستالوجيا هنا آلة سفر زمنية نحو استرجاع مشاعر من زمن مفقود، في زمن أصبحت فيه المشاعر المعلبة هي التي تتصدّر رفوف العلاقات الإنسانية يرافقها الشعور الدائم بالضياع والوحشة. يلجأ لها الأنسان بعدما سئم المؤثّرات المتاحة بشكل لا يتيح له التفاعل وبذل الجهد. وهنا بيت القصيد.
التفاعل الحقيقي الذي عاشته الأجيال السابقة بين الانتقاء والتلقي والنقل لمحتوى الكاسيت أو الأسطوانات. والتفاعل بين البائع والمشتري، هذا الشوق إلى التفاعل الذي بات متبلداً ومركوناً، هو المنشود.
والجهد المبذول في نيل وسيلة سمعية تقليدية أو شريط تسجيل، في شرائها وعملية نقلها إلى المحيط؛ سواء بين للعائلة أو الأصدقاء أو الأحبة، لما يحتويه هذا الشريط من تعبير مُغنٍ يعبّر عن حالة معيّنة كأن تكون حالة حب، أو حزن، أو فراق.. وغيرها. فضلاً عمَّا تتسم به أغاني ذلك الزمن من التزام وإخلاص في اللحن والكلمات وطرق الإنتاج والإخراج.
هذا كلّه من شأنه أن يوقظ الذاكرة الوجدانية في محاولة استرجاع جماليات الماضي واسترجاع شواهدها والاحتفاظ بها كأرشيف فنّي. وما تصنيع الأجهزة الحديثة بأشكال وتصميمات قديمة إلَّا دليل على مدى تأثيرها في المتلقي وإيقاظ حنينه نحو الزمن الذي كانت فيه الأصالة المنطلق الأول للشعور وطرق التعبير عنه.
وعلى الرغم ممَّا تنطوي عليه هذه النوستالوجيا من فرح وآسى في آنٍ واحد، إلَّا أنَّها قيمة أساسية من قيم الإنسان الذي تاهت خطاه بين الرتم السريع للحياة الحالية، ورسوخ ذكرياته السابقة قبل هذا الرتم.
فهو يبتاع ويحتفظ بكلِّ ما يثبت أنَّ للمشاعر قيمة، أثمن من كل القيم.
حبُّ التملّك
ويؤكّد علي شاكر، وهو أحد المعنيين وجامعي السمعيات الكلاسيكية، فيقول إنَّ عشرين عاماً وما زال شغفه مستمراً إلى اللحظة باقتناء الكاسيت، وجمع أغاني المطربين الذين تولّعت روحي بأغانيهم. هذا الحنين الذي يسكن في داخلي دائماً لم ينطفئ مثل شرائي لكاسيت أو كتاب، مجلّة قديمة، بوستر قديم، هذه الأشياء التي أراها قريبة مني دائماً، التي أعيش تفاصيلها بشكل يومي. هذا الشغف بدأ عندي في مرحلة البلوغ والتعرّف على التفاصيل الحميمة حين كانت في بيتنا مكتبة صوتية صغيرة مهملة تحتوي على تسجيلات بعض من فناني ذلك الزمن “القبنچي، الغزالي، عبد الوهاب، أم كلثوم، فريد الأطرش” عرفت قيمتها بعد حين.
وحين بدأت أنتبه إلى أغاني جيلي، كنت أقتنص من هذه المكتبة أي كاسيت يكون أمامي وأذهب إلى أحد محال التسجيلات التي كانت كثيرة في السوق القريبة من منزلنا؛ لأعيد التسجيل عليها من جديد للمطربين الذي أحبهم، كان المال وأنا بذلك العمر ليس كافياً لشراء النسخة الأصلية مع بوستر الألبوم كون السعر كان خيالياً بالنسبة لي.
في الوقت الحاضر انتهت هذه التفاصيل التي عشناها في ذلك الوقت كلّها، وبدأ زمن سماع الأغنية من خلال وسائط عدّة وبطرائق تشغيل مختلفة، وبطرائق سهلة الوصول من خلال المنصّات الإلكترونية، وهذه الطرائق تؤدي بالمستمع إلى عدم الغوص في تفاصيل الألبوم الذي صدر للفنان بتلك السنة بالشكل الكامل، وهذا ما يجعل من معرفة تفاصيل كل يدور حول هذا الألبوم أو ذاك إشكالية، كون المستمع تغيب عنه أغلب التفاصيل التي مر بها الفنان خلال إنتاج الشريط الغنائي، من هذه التفاصيل هو عدم معرفة سنة إصدار الألبوم ومع من تعامل من الملحنين والشعراء والموسيقيين في تلك المدّة إلخ من تفاصيل معرفية في صناعة الأغنية. حالياً بدأت ألاحظ توجّه بعض الشباب لاقتناء الكاسيت والأسطوانات ومشغّلات الصوت الحديثة وتجميع أرشيف خاص بهم، هذا دليل على التملّك وعمق التواصل الروحي مع الموسيقى أو الأغاني التي نحبّها.
بقي هذا الحنين يلازمني، وإلى الآن أقتني النسخ التي لم أستطع اقتناءها في وقت سابق لأسباب عديدة، أو النسخ التي تكون بدقّة أفضل من إصدار شركات الإنتاج الأصلية التي لم أعثر عليها من قبل، الجميل في كلِّ هذا أنّني أعود للأشياء التي أحبّها ولم أتخلَّ عنها، والأجمل في اقتنائي للكاسيت أنَّ الأغنية في مكتبتي الصوتية هي ملكي.