هل يتمكن جميع الكتّاب من توفير غرفٍ خاصَّة بهم؟

ثقافة 2024/01/10
...

مآب عامر

مرة قرأت مقولة في أحد الكتب يقول صاحبها “لا تصل المشاهد عادة إلى مكتبي، ولكنها تدخل إلى دفاتري”، وأفكر في غرفتي الواسعة التي تقعُ في الطابق العلوي من البيت وكيف أنَّها خاصة بي، وأصبحت مكاناً مقدساً.. في الواقع، الغرفة هي جزءٌ من قصتي وتمتلئ بالكتب ومقتنياتي الثمينة والرخيصة حتى وجود “اللابتوب” داخلها يلهمني بعمق.. فالصمت والعزلة والورق وأكواب القهوة وتلك الفوضى كلها كانت تؤكد أننا نبحثُ دائماً عن طريقة أفضل لكتابة قلقنا وتجاربنا.
وأتساءل هل يتمكن جميع الكتّاب من توفير غرفٍ خاصَّة بهم؟ وهل يتمتعُ المبدع بأية استقلاليَّة في ما يتعلق بمكان القراءة والكتابة، بمكتبته؟ ذكرياته وصوره ولوحاته، أقلامه وقصاصات دفاتره وشهاداته التقديريَّة والجوائز، وغير ذلك من مقتنياتٍ تعودُ لعالمه الذي يشبه مدينة فاضلة في غرفة له وحده.ركيزة أساسيَّة
يرى الشاعر طالب حسن أنَّ جوهر المشكلة حول هذا الموضوع تتعلق بأكثر من محور. ويقول إنَّ “أهمها الظروف المعاشيَّة والماديَّة للمبدع، فهي الركيزة الأساسيَّة لبناء كينونة مستقلة أو (ملاذ آمن) وبيئة هادئة، لكي يتمكن من أنْ يبدع في مجال اختصاصه، وعندما تتوفر خاصيَّة الغرفة المستقلة، يصبح كل شيء على ما يرام”.
ربما رأي الشاعر طالب حسن يوضح لنا أنَّ حاجتنا لإثبات وجودنا يحددها أحياناً، بل دائماً ما نمتلكه من ركائز ماديَّة تحدد موقعنا الذي قد يتجاوز الزمن.

معنى الرفاهية
أما الشاعر نواف خلف السنجاري فيعتقد أنَّ أغلب أصدقاء الأدباء وأنا واحدٌ منهم، لا نملك غرفة خاصة بنا، ويقول إنَّ “من يتمتعون بغرفٍ خاصة بهم هم قلائل، وربما نادرون.. لأنَّ معظم الأدباء هم من أصحاب الدخل المحدود، ولا يمكنهم تخصيص غرفة لهم، إذ إنَّ منازلهم صغيرة، ومنهم من لا يمتلكون منزلاً أصلاً”.
في كثيرٍ من الأحيان يضطرُّ الكتاب والأدباء إلى التغيير والتحول قسراً، لأنَّ الحياة صعبة للغاية، وليس لأنَّ ذلك كما يظن البعض، هو مسألة اختياريَّة، على الرغم من أنَّ الكتاب سيكتشفون لاحقاً أنها تجربة تظهر قدراتهم الحقيقيَّة في التجاوز والانطلاق من جديد.
ويضيف السنجاري: “لقد استغرق بناء منزلي الصغير، نحو عشرة أعوام، في البداية وتحديداً في العام 2004 شرعت ببناء غرفة صغيرة وكان السقف من الطين، إذ عشت فيها لما يقارب الثلاثة أعوام، قبل أنْ أبدأ بصب السقف بالحجر الإسمنتي، والتخلص من معاناة فصل الشتاء، إذ كان المطر ضيفاً ثقيلاً يهطل بشدة في ليالٍ بدت قاسية”.
ويتابع السنجاري: “وحين انتهيت من بناء منزلي الصغير الذي كان يتكون من غرفتين وصالة للمعيشة، قضينا فيه بضعة أشهر، كنا نشعر فيها بمعنى الرفاهية! إلا أنَّ الشعور بالسعادة لم يستمر طويلاً، بحسب السنجاري، حيث سيطرت عصابات داعش الإرهابية على مدينتنا، ودمروا وأحرقوا وسرقوا كل شيء فيها، وقد كان بيتي الصغير من ضمن البيوت التي سرقت وتدمرت، وتمَّ العبث بكل محتوياته ومقتنياته وأثاثه، حتى الحاسوب الشخصي الذي كنت أجمع فيه كتاباتي وأحفظها، وكذلك صوري، ومخطوطاتي مدوناتي تم تدميرها وعمدوا أيضاً إلى إحراق كتبي.. ولكن بعد تحرير مدننا عدت من نقطة الصفر للبدء من جديد”.
ويؤكد: “بالنسبة إلي فأنا أقرأ وأكتب في غرفة النوم والصالة التي تحتوي على طاولة و4 كراسي التي هي ذاتها التي أكتب عليها، هذه الفسحة من البيت التي نجلس ونتناول الطعام داخلها لأنَّ المطبخ صغير الحجم ولا يتسع أبداً. أما كتبي التي جمعتها بعد مرحلة النزوح، والشهادات التقديرية، والدروع، والدفاتر، والجرائد، والمجلات، التي نشرت أعمالي، فأنا احتفظ ببعضها في صناديق، أو في خزانة الملابس، لأني لا أمتلك لغاية الآن مكتبة أرتب فيها كتبي ومقتنياتي الثمينة”.

المكانيَّة والزمانيَّة
في المقابل، يرى الشاعر أديب كمال الدين “أنَّه لا بُدَّ للكاتب من غرفته الإبداعيَّة الخاصة به، وبدونها تكون الكتابة أقرب إلى الفوضى”. ويقول: “من الضروري حقّاً أنْ تكون للكاتب غرفته الخاصة به تحوي أدواته من أقلام ودفاتر ومذكرات وأجهزة الكومبيوتر و”الآيباد” إلخ، سواء صغُرت الغرفة أو كبُرت. لا بدّ له من ذلك بشكلٍ حتميّ حتى يستطيع أنْ ينتج أعماله الإبداعيَّة بشكلٍ منظّمٍ ومستمرٍ وسلس، وبخلافه تصبح عملية الكتابة شيئاً أقرب إلى الفوضى أو إلى الارتباك على الأقل”.
المسألة بنظر الشاعر أديب كمال الدين ليست ثانوية مهما كان نوع الكتابة التي يمارسها هذا الكاتب، سواء أكانت شعراً أم روايةً أم نقداً أم ترجمةً، بل هي من أساسيات العمل الإبداعي التي لا غنى عنها أبداً.
لكنَّ تحقيقها، كما يضيف الشاعر: “يتمّ طبعاً حسب ظروف الكاتب المكانيَّة والزمانيَّة”. ويسرد مثلاً، وهو يتابع: “ففي أستراليا حيث أقيم يكون تحقيق ذلك أكثر صعوبة من العراق أعنى من ناحية الحجم، ولذا كثيراً ما يكون حجم غرفة الكاتب الإبداعيَّة متوسطاً أو صغيراً. ذلك أن الحيز المكاني لكلّ شيء هنا محسوبٌ بدقة شديدة وصرامة متناهية، فلا وجود للصالات أو الغرف الكبيرة حتى يعرض الكاتب كل مقتنياته وشهاداته وجوائزه وصوره ولوحاته خاصة عندما يملك منها الكثير، ولذا غالباً ما تبقى هذه الأشياء الجميلة- أو القسم الأكبر على الأقل- حبيسة الحقائب أو الصناديق”.
ويشير الشاعر إلى أنَّ “التصميم الأسترالي للحياة ولتفاصيل العيش فيها هو تصميم غربي، والتصميم الغربي تصميم عملي في كلّ شيء. لا يحبذّ أبداً كلّ ما هو زائد عن الحاجة سواء كان ذلك في حجم البيوت أو الشقق أو الغرف، بل إنَّ ذلك يشمل حتى العواطف والمشاعر والطعام وصولاً إلى الكلام”.
التصالح مع الذات
ولا يظن الروائي أسعد الهلالي أنَّ جميع الكتاب قادرون على توفير غرفٍ خاصَّة بهم، رغم حاجتهم الماسَّة لها، فللكاتب كهفه الذي يأوي إليه لينقطع عن العالم برمته، ربما يتأمل، يقرأ، يكتب، يحلم، ومثل هذه الأمور تحتاج قطعاً إلى انزواءٍ قد يخدشه صوتٍ يسمعه الكاتب فيغادره انسجامه واستغراقه في الكتابة.
ويقول الهلالي إنَّ “توفير غرفة خاصة لحياة الكاتب التأملية يرتبط بالتأكيد على قدرته المادية على توفير مثل هذه الغرفة، وليس غائباً عنا أنَّ أغلب الكتاب فقراء إنْ اعتمدوا على الكتابة كمهنة يستمدون منها مقومات الحياة، وأغلب الكتاب الذين يمتلكون غرفهم الخاصة لا يعتمدون على الكتابة بشكلٍ تام، بل على مهنٍ أخرى ربما يكون بعضها قريباً من عالم الكتابة كالصحافة أو التدريس الجامعي، أو العمل في الدوائر الخاصة بالكتابة أو الإعلام”.
ويضيف: “لكنَّ الكثير منهم يعملون في مهنٍ لا علاقة لها البتة بالكتابة، فأحد أصدقائي الشعراء البارزين مثلا يعمل حداداً، لكنَّ عمله في الحدادة جعله يمتلك غرفته الخاصة، كأغلب من يمتلكون مهنا تدر عليهم موارد جيدة”.
وتابع الهلالي: “لا يمنح أحدٌ الاستقلالية للكاتب إنْ لم يستحوذ عليها بنفسه، فالأجواء الأسريَّة مثلاً تشكل اختراقات أكيدة لعالم الكاتب الذي يميل للانطوائيَّة والانعزال بسبب حتميَّة الاستغراق في التأمل والتفكير، وهما لا يتحققان مع وجود ضوضاء أو مشوشات سمعبصرية، لذا يتعايش الكاتب في العراق بشكلٍ خاصٍ مع ضرورة وضع معادلات دقيقة لتحقيق اندماجٍ مقبولٍ مع الأسرة المتكونة من زوجة نادراً ما تكون راضية عن اهتمامات زوجها بالكتابة أو القراءة، وأطفال يحتاجون حتماً إلى دعم والدهم والحصول على فسحة من الوقت ليدخل الكاتب إلى كهفه وينعزل عن عالمٍ يراه فوضى ويعمل على تنظيمه ولو وفق مخيلته المرهقة”.
ويعتقد الهلالي أنَّ “هناك أيضاً الضرورات الاجتماعية التي تأخذ الكثير من جرف الكتابة وانصراف الكاتب لها، ولعلها تخترق عالمه بشكل مرهق، لكنَّ الكاتب مجبرٌ لاعتبارات اجتماعيَّة أيضاً على احتمالها، كما يقول: ما زالت الكتابة مفردة ملتبسة لدى الكثيرين ممن يحيطون بالكتاب، فهم لا يرونها مهنة صالحة لتكوين أوضاعٍ اجتماعية واقتصادية مناسبة، كما لا يقنعون بأنَّ منجز الكاتب يستحق جهده أو انصرافه في زمنٍ انحسر فيه القراء واضمحل الاهتمام بالقراءة، وعملت الميديا بوسائطها المتوالدة على تقديم بدائل أكثر سهولة وأسرع في توفير المعلومة والفكرة والمتعة وهي ميزات يحتاج الكاتب إلى الكثير ليقدمها إلى جمهور يقتنع بها”.
ويشير إلى أنَّ علينا أن “نعترف بأنَّ الكاتب مضطرٌ إلى أنْ يعيشَ عالمين متناقضين، عالم يريده أنْ يكون عنصراً اجتماعياً منسجماً مع النسق العام، وعالم ذاتي انطوائي يحصل من خلاله فقط على فرصة يسيرة للتصالح مع الذات”.

إشكاليات وتناقضات
وفي واقع اجتماعي إشكالي كالعراق ينشأ المبدع ومنذ طفولته وهو يعيش تناقضات واقعه اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً، الأمر الذي يؤثر في طبيعة تكوينه المعرفي والثقافي، فضلاً عن إهمال رعاية طفولته أسرياً أو مجتمعياً وفي ظل استشراء أزمة السكن المقيمة عراقياً، كما يقول الشاعر جبار الكواز: “فمن النادر أنْ تجد مبدعاً قد توافرت له غرفة مستقلة يمارس فيها طقوسه الإبداعية والمعرفية والجمالية، ولهذا فإننا في العراق ارتبطت الآداب والفنون بقيم المجتمع بكل إشكالياتها وتناقضاتها في نظرتها الى الإبداع والمبدعين”.
ويرى أننا “ما زلنا نطبع كتبنا من أموالنا الضئيلة الخاصة، وقد تتوافر لدينا استقلالية في حيز مكاني صغير مهمل من بيتنا الصغير أصلاً أو بيت أهله، ولهذا فالمبدع العراقي لا يحسن توثيق قراءاته وكتاباته الابداعية ولا يهتم إلا نادراً في تنظيمها، وربما يمتلك بعضنا مكتبة صغيرة لا تلبي تطلعاتنا الى المعرفي والثقافي ولم تترسخ لدينا كأدباء أهمية الصورة الفوتوغرافية وأثرها في صياغة تجاربنا فتجد القليل من مبدعينا لا تتوافر لديهم صورٌ فوتوغرافية تمثل الطفولة فطفولتنا انبثقت من العوز والجوع والخوف من التسلط الاجتماعي المتوارث للأب وللأخ الكبير، ولا تشكل لدينا أماكن لحفظ صورنا في مراحلها الزمانية ولا لوحاتنا التي تأكلها الأرض أو يخربها النسيان، أما الأقلام والقصاصات والدفاتر، فهي نهبٌ للإهمال أو لإرادة الأم أو الأب أو الأخ الكبير فتراها تتوزع كعرضٍ للبيع بين محال البقالة واللحوم ومطاعم الأكل السريع بثمنٍ بخسٍ لتلبية حاجة الأسرة الآنية، ولا أهمية للشهادات التقديرية لدى الجميع فتبدو لدى أكثرنا نوعاً من الترف الاعتباطي لأنها كما يقول الجميع لا تشبع من جوع ولا تروي من ظمأ”.
ويشير إلى أنَّ “أكثر مبدعينا تتعرض حياتهم الابداعية الى ظلمٍ كبيرٍ فلم تتأطر بعد اهمية رعاية المبدعين فالمبدع العراقي بعد مسيرة طويلة وظالمة ومظلمة، وفي أخريات حياته يتوق الى منّة مالية تساعده لمواجهة شيخوخته وامراضها وبعد تضاؤل قدراته الجسدية فهو إنْ كان له عالم خاص يمثل لديه مدينته الفاضلة فلا يجده إلا عبر الحلم، الحلم الذي قاد أكثرنا لمواجهة واقع ظالم لا يحترم العطاء الابداعي والثقافي إلا في حالات نادرة حدثت بفعل ضغط إعلامي أو سياسي إرضائي بحلولٍ أقل من الوسطيَّة”.
ويتابع: “وبعد هل ثمة أملٌ في بلورة عالم مثالي لمبدعينا يشكل الانموذج الأمثل أمام الأجيال الناشئة؟!..شخصياً أنا متشائمٌ جداً.. فما يواجهه المبدع العراقي يضعه أمام سبيلين إما هجران عالمه والدخول الى عوالم أخرى بعيدة عن آفاق اختصاصه أو يصمت وتتضاءل تجربته بعد أنْ أهملته الظروف بأفعال وإرادات متبناة من قبل القوى المتصارعة على قيادة البلد والبعيدة عن الإبداع.. مبدعنا مظلوم ومهمل أمس واليوم وغداً”.