شعر الأقليات العراقيَّة

ثقافة 2024/01/10
...

د. كريم شغيدل

 هناك مكونات عراقيَّة غلب على تكوينها الطابع الشفاهي فالكتابة في المجتمع الأيزيدي الذي يحرص على نقل تراثه عبر الأجيال تعد ظاهرة جديدة، لكن بعد تعرّض المكون الأيزيدي لجرائم الإبادة الجماعية والتهجير ظهر جيل من الكتاب والشعراء بدؤوا يؤرخون تلك الأحداث، بعد (هذه الكارثة/ كثرت المقابر/ وكذلك الشعراء) ولا يمكن أن يعول على شعر أيزيدي يكرس علامات الهوية أو يتمثلها قبل 2014، فنحن أمام نمط شعري ينبثق من المأساة (جرائم التطهير والتهجير والنزوح والمخيمات وسبي النساء وما إلى ذلك)
 يقول الشاعر حجي خلات المرشاوي من قصيدة بعنوان (أيزيديٌّ أنا):
 (أحملُ وجع سبعة وأربعين إبادة/ ومليون عامٍ من البكاءِ/ علاماتي الفارقة/ فمٌ مغلقٌ وإرادةٌ مشلولةٌ/ لا يعرفني الربُّ/ ولا تحتويني خريطةَ طريق/ تحتقرني الكتب السَّماوية/ وتشمئزُّ منِّي ملائكةُ الرَّحمن/ لا صكوك غفرانٍ تشفعُ لي/ ولا آيات تُحصِّنُ أسواري/ أنا مشروعٌ دائمٌ لجنةِ الآخر/ كلُّ من قتلني اعتذرُ منهُ/ إذا لم يصل إلى جنّتهِ/ وإذا وصلها لا أنتظرُ منه شكرًا)*
 يدون النص انفعالات شعب ابتلي بإبادات جماعية عبر التاريخ، فالأيزيديون أقلية عاشت على هامش المجتمع بلا أيِّ صورة من صور الاندماج، ذلك أنَّ الدين الأيزيدي ليس تبشيرياً، فهم مجتمع منغلق على طقوسه الخاصة، وأنَّ الجرائم التي ارتكبتها عناصر ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) قد استفزت ذاكرة هذا الشعب المسالم، الأمر الذي جعل الشاعر يستحضر بطريقة الغضب أو الانفعال الشديد مأساة شعبه، بسبعة وأربعين إبادة ومليون عام من البكاء، وبنبرة تهكمية ممزوجة بالاستنكار والغضب يشتغل النص على صورة الأيزيدي عند الآخر المختلف، فالأيزيديون في نظر الآخر هم عبدة الشيطان، والشيطان في موروث الديانات الإبراهيمية عامة والإسلام خاصة، ألدُّ أعداء المؤمن، عليه يكون عبدته في حكم الكفرة الخاضعين لمختلف الأحكام الشرعية إذا ما تمَّ توظيفها بطريقة قسرية متطرفة، ويتبنى النص مدلول الاستلاب بمثابة العلامة التي تميز هذا الشعب وتقصيه من دائرة الرب، كما تحتقره كتب السماء بحسب المنظور الذي يضع الأيزيدي مطلقاً في خانة الكافر أو المشرك بالله، فلا يعرفه الرب، وتحتقره كتب السماء، وتشمئز منه الملائكة، فلا صكوك غفران تشفع له، ولا آيات تحصن أسواره، أقصى درجات التهكم من الذهنية الأحادية التي تسعى لفرض خطابها التكفيري، وتعدُّ قتل الآخر المختلف طريقاً للجنَّة. ويقول الشاعر الأيزيدي مسافر دخيل قاسم في نص يتداخل فيه السردي الوقائعي والغرائبي بالشعري:
(كل صوركَ التي علقناها على أعمدةِ الكهرباءِ/ قمنا بإزالتها/ سمعنا بأنكَ عدت/ عادَ اسمكَ عادَ قميصكَ/ عادَ هيكلكَ لكنهُ ليس بالكامل/ قتلوا عراقيتكَ، وعادتْ لنا الهويةُ).
 في هذا النص هناك تأكيد للهوية العراقية، بمثابة اعتراف بهوية الجغرافية والتاريخ والوطن والمواطنة والولاء والانتماء، لكن تم قتل كل ذلك في لحظة غابت فيها جميع وشائج الانتماء والتعايش والتسامح وقبول الآخر، الأمر الذي دعا للتمسك بالهوية الثقافية الفرعية، بعدما تزعزعت فكرة الوطن بفقدان الأمان ونشوب خطر الإبادة، فالمواطن الأيزيدي استهدف بسبب هويته التي دفع حياته ثمناً للتمسك بها، كما دفع ثمن الانتماء إبادات جماعية عبر التاريخ وتهميشاً وإقصاء وعزلة، وإذا كانت الهوية تشكل ما يسمى بـ(الملاذ الثقافي) الحامي للنوع والمميز للجماعة، فإنَّ تحولها إلى سبب للإبادة لا يزيد من الولاء لها فحسب وإنما يحولها إلى تحدٍ وجودي، ويوظف الشعراء الأيزيديون رموزهم المكانية التي ارتبطت بالمجازر كسنجار التي تلفظ باللغة الكردية شنكال ولالش. يقول الشاعر جمال كريمو في خاتمة قصيدة بعنوان (كبرت في رحم الحرب):
 التقينا إذّنْ: موتى في صورةٍ جماعية/ عُلقتْ على جدارِ المزار في لالش.
 ولالش هي المدينة المقدسة التي فيها المعبد النوراني وقبر الشيخ عدي بن مسافر، وفيها مقر المجلس الروحاني، ويحج إليها الأيزيديون سنوياً، ففضلاً عن كونها موطناً لهذه الطائفة، فهي تنطوي على بعد روحاني وتاريخي. ويستحضر الشاعر (هيمان الكرسافي) مدينة شنكال:
(كنتَ هناك/ وتسمعني/ حيث قهقهة الطغاة بين أزقةِ شنكال/ اقتحموا منزلي/ لحقوا بإخوتي …/ أُسرتي/ ذبحوا أصدقائي/ حرقوا جدَّتي/ وجرجروا شبحي، عاريًا يطاردونه).
 وهكذا تحاول الأقليات العرقية والدينية أن تؤكد هوياتها الفرعية بسبب التحولات الدراماتيكية وجرائم الإبادة التي مارستها القوى الإرهابية، والتأسيس لأدبيات هوياتية تكون بمثابة المصدات الدفاعية عن الوجود.
 يعد الشبك مجموعة تقطن في أكثر من 60 قرية في سهل نينوى في أقضية الحمدانية وتلكيف والشيخان وبعشيقة وسنجار وتلعفر ومخمور وغيرها، ولهم لغة خاصة منحدرة من لغات هندية إيرانية من فرع (زازا- كوراني) وتسمى لهجتهم بـ(الشبكية الباجلانية) وأسوة ببقية الأقليات قاوموا سابقاً سياسات التعريب، كما تعرضوا بعد 2003 للتهميش والإقصاء ولم يسلموا من جرائم الإبادة والتهجير على أيدي الجماعات الإرهابية ضمن أحداث الموصل بعد سيطرة عناصر تنظيم داعش في العام 2014، يقول الشاعر الشبكي مهدي المارديني:
(فما أن أدركت من حولي وكبرت وصرت/ فتيا/ حتى علموني أني مختلفٌ/ وصار ذاك الحب يختفي نسبيا/ فيجب أن أحذر من شخص إذا كان ولاؤه/ سنيا/ وأكره عقيدة من يخالفني/ مسيحياً كان أو أيزيديا/ وأهجر جاري الكاكئي ولا أصاحب من يدعى/ صُبيا/ وولائي يجب أن يكون لعليٍ/ فإني قد وُلدتُ شيعيا).
 وهذا النص بنبرته التقريرية المباشرة هو بمثابة الموقف الأخلاقي ضد إشاعة الكراهية والتفرقة، فهو وإن أشار مباشرة للهوية الطائفية للمكون والتي لا تحول دون التعايش مع الآخرين، وإن كان المكون تعرض للاضطهاد والقمع والتهجير والإبادة، إلا أنَّ النص يدين مشاعر الكراهية التي يحاول الخطاب التكفيري ترسيخها.
 في العراق هناك أقليات عرقية ودينية غلب عليها السكوت ليس خوفاً من سلطات القمع فحسب، وإنما موروثها الثقافي يفرض عليها السرية والانكفاء على ذاتها والاندماج مع المجتمعات من خلال المشتركات الثقافية العامة، فالشبك والصابئة المندائيون وبعض التركمان والكلدوآشوريون يتحدثون العربية ويندمجون مع مختلف المكونات ولهم حياتهم الخاصة بما تنطوي عليه هوياتهم من انحيازات ثقافية وتقاليد وطقوس داخل مجتمعاتهم، فبين الشعراء العراقيين من هم من أصول تركمانية أو من الكرد الفيليين أو من الصابئة المندائيين أو المسيحيين لكن تجاربهم الشعرية انتمت للثقافة العراقية لغة وموضوعات وهمَّاً شعرياً وانتماء، فلم نجد على سبيل المثال عند الشاعرة لميعة عباس عمارة ما يرمز إلى هويتها المندائية، وباستثناء الكورد لم تسمح الحكومات المتعاقبة بتعليم اللغات الأخرى غير العربية، بل تعرضت مختلف المكونات إلى حملات التعريب، الأمر الذي حال دون نشأة ثقافات خاصة بتلك المكونات مستمدة من موروثاتها ولغاتها، لكن ما حدث بعد التغيير في العام 2003، أعاد للهويات الفرعية اعتبارها لمواجهة التحديات.
*اعتمدنا على بعض المواقع الإلكترونية وكتاب الشاعر جميل الجميل، آل نيْمِقي/ مدينة الحكمة/ مختارات لمجموعة شعراء من مكونات نينوى الصادر عن دار سرقايا للطباعة والنشر، كامبردج- المملكة المتحدة، في اختيار النماذج الشعرية.