أزمة الإنسان والحضارة في مسرح أوجين يونيسكو

ثقافة 2024/01/10
...

أوس حسن

نشأ التجريب في المسرح في آواخر القرن التاسع عشر على يد الكاتب والمسرحي الفرنسي ألفريد جاري وكان بمثابة حركة ثوريَّة ومجددة في الوقت نفسه، وتحديداً في مسرحيته “أوبو الملك” التي نسف فيها كل القواعد والأشكال المعروفة في النص المسرحي الكلاسيكي من خلال لغة الجسد والحركات الإيمائيَّة، وإدخال العناصر الغرائبيَّة وغير المألوفة في الأزياء والديكور وطريقة الحوار التي تتّسمُ بالسخريَّة والفكاهة السوداء في أكثر المواقف الجديَّة، كما استبدل جاري الإشارة أو الرمز بدلاً من اللغة، محاولاً بذلك هدم الجدار الفاصل بين الممثلين على خشبة المسرح وبين الجمهور، كان لهذا التجريب الأثر البارز في ظهور حركات ما بعد الحداثة في القرن العشرين كالسورياليَّة والدادائيَّة ومسرح القسوة عند آنطونان آرتو.أما مصطلح العبث في المسرح فقد ظهر في فترة الخمسينيات وبعد الحرب العالميَّة الثانية، وهي تسمية أطلقها النقّاد على هذا المسرح بسبب افتقاره للحبكة والعقدة المركزيَّة، وضياع معالم الشخوص والأسماء وتحرره من عنصري الزمان والمكان، وكذلك ما يشوب الأحداث من غموضٍ وانقطاعاتٍ وتحللٍ في البِنْية اللغويَّة للنص، فعادة ما نرى الأشياء والأشخاص تائهين ضائعين، يتبادلون الأدوار والحركات في مشاهد تبدو وكأنها في حلم.
كان مسرح العبث بمثابة صرخة تمرد على انهيار الإنسان وقيم الحضارة الغربيَّة بعد الحروب العالميَّة، كذلك ثورة على جميع التقاليد الاجتماعيَّة والنظم التي تقيد حريَّة الإنسان، ولا ننسى أنَّ رواد الحركة الطليعيَّة في مسرح العبث كصموئيل بيكيت وآرتور آداموف وأوجين يونيسكو، وجان جينيه وجورج شحادة وغيرهم، كانوا قد عاصروا السورياليين والدادائيين وكانوا على تماسٍ مباشرٍ مع رواد المذهب الوجودي كسارتر وكامو، اللذين وصلا إلى نتيجة مفادها أنَّ العالم لا معنى له، وأنَّ الحياة لا تستند على أي قيمة أخلاقيَّة أو ماهيَّة مسبقة، لكنَّ الوجوديين كان لهم نظامهم الفلسفي في النتائج المفضية إلى الحريَّة والالتزام والتمرد، وهي قيمٌ ومعانٍ يخلقها الفرد الوجودي ويكون مسؤولاً عنها بقدر انفتاحها على الإنسان وحقه في الحريَّة والكرامة. أما كتَّاب مسرح العبث والسورياليون فقد ظلوا تائهين في دوامة هذا العالم، يفتقدون إلى المركزيَّة والمعنى الحقيقي في نظام حياتهم وأفكارهم، فكانت اللاجدوى برعبها تضغط على أرواحهم وتفتتها، فكانت الفجيعة تزدادُ وحشيَّة وقتامة وتجعلهم معلقين في صراعٍ دائمٍ في هذا الوجود.

الهويَّة الفرديَّة والذات الممسوخة في القطيع
عالج أوجين يونيسكو أزمة الإنسان وتدهوره في الحضارة الصناعيَّة، وسلط الضوء كثيراً على اللامبالاة بكل ما فيها من خسة وسفالة، بوصفها الطابع المميز للمجتمع الآلي الذي فقد مقومات وجوده الإنساني، لأنَّه استعاض عنها بصلات ميكانيكيَّة حجرت المشاعر ومزقت الصلات الفطريَّة بين أعضاء المجتمع، وقضت على روح الجماعة لتحل محلها روح القطيع الحيواني الذي لا يعرف التمرد، لأنَّ غريزة الحياة تفرضُ عليه الطاعة فرضاً، وبفضل هذه الطاعة العمياء تنتفي السمات الإنسانيَّة والميزات الفرديَّة، فتنصهر الذات في القطيع وتضيع معالمها تماماً. حتى اللغة فقدت كل مقوماتها التي وجدت من أجلها، وأصبحت كياناً متداعياً وعبئاً مرعباً.
يقول يونيسكو: “ليس لي من صور العالم غير الزوال والوحشيَّة والجنون، والغرور واللاشيئيَّة والرعب والكراهية اللامجدية، كل ما جربته وكل ما رأيته وفهمته في طفولتي الجنون التافه، أفانين الصراخ التي يغيظها الصمت، الظلال التي يطوقها الليل أبد الدهر”.
الخراتيت
تجسد مسرحيَّة “الخراتيت” بدلالاتها الرمزيَّة وأجوائها العبثيَّة واللامعقولة، حقيقة الرعب والفجيعة والمصير القاسي الذي يلقاه الإنسان وحيداً. وهي ضريبة التمرد وعدم الانتماء للقطيع والجماعة التي تحيا وجوداً آلياً وميكانيكاً وهذا المصير هو الضياع والوحدة بكامل وحشيتها وجنونها. لكنَّ هذا المصير هو مصير العظماء والقديسين في مواجهة عالمٍ تحركه الدمى والكائنات الممسوخة عن آدميتها.
تتحدث المسرحيَّة عن ظاهرة غريبة وغير مألوفة في إحدى البلدات الصغيرة، وهي ظاهرة أشبه بتفشي الوباء والفايروسات، إذ يلاحظ أهل البلدة أنَّ هناك خراتيت وحيدة القرن تتجول مع الناس في الأسواق وتقتحم المقاهي والمنازل الآمنة، ويبدأ هذا الخبر الغريب يستولي على اهتمام الناس والصحافة والعاملين في الحكومة، إلا أنَّ المفارقة الغريبة في مسرح يونسكو تكمن في ذاك الرعب الذي استعاره من كافكا وروايته المسخ، فنرى أنَّ سكان هذه البلدة قد بدؤوا بالتحول تدريجياً إلى خراتيت.
تعدُّ شخصيَّة بيرانجيه في المسرحيَّة هي شخصيَّة عبثيَّة وجوديَّة وهي تظهره كسكيرٍ وطيب القلب وإنساني إلى درجة كبيرة، أما صديقه جان فهو رجلٌ منطقيٌّ ومثقفٌ وله خطة ومنهحٌ في حياته يسير وفقهما، وجان عادة ما يتنمر من بيرانجيه ويسخر منه لمظهره الرث وعبثيته، لكنْ نرى أنَّ الجميع قد تحولوا إلى خراتيت وانجذبوا إلى ذلك الإغراء الحيواني ومن ضمنهم صديقه المقرب جان في مشهدٍ حواري كابوسي يذكرنا بكابوسيَّة كافكا وأدغار ألن بو وأفلام الرعب في السينما، فلا يبقى في البلدة سوى بيرانجيه وحبيبته ديزي البشرين الوحيدن في البلدة الممسوخة التي تحول جميع سكانها إلى خراتيت.
يطالب بيرانيجيه بأنْ يستأصل الشر من جذوره، فالشر يعشعش في كل جزءٍ من كيان العالم ويلطخ براءته المستباحة، وهنا يستوقفنا هذا المشهد بين بيرانجيه وصديقه في العمل دودار الذي يتصف بالحكمة والمعرفة:
بيرانجيه: يجب أنْ نستأصل الشر من جذوره.
دودار: الشر الشر، كلمة جوفاء.. هل من الممكن أنْ نعرف أين يكمن الشر وأين يكمن الخير؟ نحن نفضل أشياءً على أشياءٍ أخرى.
وهل تعرف أين ينتهي العادي وأين يبدأ الشاذ؟ هل بإمكانك أنت تحديد هذه المفاهيم؟ فمن وجهة النظر الفلسفيَّة والطبيعيَّة لم يستطع أحد أنْ يحلَّ المشكلة.
وهنا يرى دودار أنَّ ما يحدث هو أمرٌ طبيعيٌّ وأنَّ الخراتيت لها الحق في الحياة مثل باقي البشر، وقد تحدث عمليَّة تبادل وتحول مستمرين بين الناس والخراتيت على مدى التاريخ، أما الشر الذي يحدث طبيعياً فهو ليس شراً حقيقياً؛ وذلك لأنَّ الطبيعة لا تعرف الشر بالمعنى الأخلاقي الذي يعرفه الشر، وإلا لكانت كائناً عاقلاً مدركاً.
في نهاية المسرحيَّة نرى أنَّ ديزي حبيبة بيرانجيه تنجذب لمجتمع الخراتيت فلم تعد تراها منفرة وقبيحة، بل ودودة ولطيفة على حد تعبيرها لتترك بيرانجيه وحيداً في غرابة هذا العالم وشذوذه.
إنَّ عمليَّة التشوه والانمساخ للكائن البشري والتي يرمز إليها يونسكو في مسرحيته هي كل ما يمسخ فردانيَّة الإنسان، وينخر روحه من الصميم من عقائد وأيديولوجيات وأديان، ليجعله يتخلى عن آدميته وينخرط في مجتمع القطيع، لكنَّ يونسكو يؤكد على قوة الإرادة الإنسانيَّة في أشد المواقف تحطيماً وقهراً ومن قلب الظروف القاهرة التي تعصف بالإنسان وفردانيته التي تميزه عن الجميع، ويتجلى هذا في المشهد الأخير من المسرحيَّة:
“الويل لمن أراد أنْ يحتفظ بتفرده، حسناً ليكن ما يكون.. سأدافع عن نفسي ضد العالم أجمع، ضد العالم أجمع سأدافع عن نفسي، أنا آخر إنسان، وسأظل كذلك حتى النهاية.. لن أستسلم”.
أخيراً بقي أنْ نقول إنَّ قراءتنا لمسرحيَّة الخراتيت وتناولها بالعرض والنقد، ينطلقُ قبل كل شيء من المشكلات والأزمات التي تعصف بالإنسان في عصرنا الراهن، وتحديداً ذلك الإنسان الممسوخ في الحضارة الغربيَّة، فما نراه من عمليات التحول الجنسي، والعبث المستهتر بالأجساد وتحويل الناس إلى كلابٍ آدميَّة بناءً على رغباتهم، هو دليلٌ فعليٌّ وحقيقيٌّ على الآلة الرأسماليَّة المتوحشة في الحضارة الرقميَّة والتي جعلت الإنسان يخرجُ من آدميته ويفضل أنْ يكون مسخاً ومستعبداً بإرادته، لأنَّ العقل البشري لم يعد يستوعب حجم التناقض والرعب اللذين يصاب بهما في حالة الفكر والتأمل في هذا العالم وفي ظل غياب كل القيم الروحيَّة والمعنويَّة التي من الممكن أنْ تخلقَ له معنى في حياة آليَّة كل شيء فيها محاطٌ بالعدم.
فالإنسان في زمننا المتشظي والمبعثر، يفضل أنْ يكون كل شيء خارج إنسانيته، لا يخاف من شيء أبداً ولا يتورع عن ارتكاب أقسى الشرور والجرائم، لكنَّ شيئاً واحداً يخيفه هو أنْ يكون إنساناً.

يونيسكو والفلسفة الوجوديَّة
يقول يونيسكو: “أحسُّ أنني لا أنتمي إلى هذا العالم على الإطلاق، وأنا لا أعرف لمن ينبغي أنْ ينتمي هذا العالم”.
إنَّ هذا اللاانتماء له خلفيَّة فلسفيَّة عند يونيسكو، فهو يضرب في جذور العدم، ومن خلال هذه العدميَّة يتأمل الأشياء تأملاً معكوساً، يبلغ به من الحدة أنْ يفكرَ في وجود نفسه وصعوبة تحديد هذا الوجود. وهذا الغموض ينتقلُ من نفسه إلى معتقداته ليحولها إلى رفضٍ لكل الأسباب والمسببات، ونبذ لكل الغايات والماهيات، وهو بذلك يقول: “كل شيء في داخلنا قابلٌ للشك والمناقشة، وحتى الأشياء الخارجيَّة التي هي غير قابلة للدحض، ليس لها سببٌ للوجود أو عدم الوجود”. ومن هنا نستطيع أنْ نلتمسَ الرابطة التي تربطه بفلسفة العبث عند ألبير كامو بقوله: “الإنسان يعيش في العالم، ولكنه لا يفهم هذا العالم، كما لا يفهم دوره فيه، وهو الإنسان غريبٌ مقطوعُ الصلة، لما يبدو له في خواءٍ غير مفهوم”.
حول مسرحياته يقول يونيسكو أيضاً: “في جذور جميع مسرحياتي شعوران أساسيان هما فكرة التلاشي من جهة، والثقل من جهة أخرى، الفراغ والحضور الزائد عن الحد، شفافيَّة العالم اللا حقيقيَّة، وكثافة اللا شفافيَّة. ومن هنا هذه الفجيعة التي تنتهي بأنْ تتحول إلى حريَّة”.
وهذا ما يبين لنا تقاطع الأفكار عند يونيسكو مع وجوديَّة سارتر، وتحديداً في كتابه (الوجود والعدم)، الذي يربطُ العدم بغياب الأشخاص والأشياء، وحضورهم بالامتلاء والوجود، فالعدم عند سارتر متداخلٌ مع الوجود، ويتجلى في وعينا وضمن نطاق شعورنا الذي يرى العالم كما يتبدى له في تمظهراته المختلفة.
كما أنَّ العدم عند الوجوديين يرتبطُ بالنفي وانعدام الإمكانيَّة، ويشمل الاغتراب، واليأس، والذنب والفجيعة، كل هذه المفاهيم المرتبطة بالعدم هي شرطٌ أساسيٌّ للحريَّة ويقظتها في أعماق الإنسان عند أغلب الفلاسفة الوجوديين، وهذا ما نراه واضحاً في كلام يونيسكو عندما ربط الفجيعة بالحريَّة.

* مصادر ومراجع معتمدة في المقال:
1 - يوسف عبد المسيح ثروت، مسرح اللامعقول وقضايا أخرى، منشورات مكتبة النهضة، بيروت - بغداد/ ط 2، 1985.
2 - أوجين يونيسكو، الأعمال الكاملة، الجزء الأول ، ترجمة وتقديم حمادة إبراهيم، الهيئة العامة المصريَّة للكتاب، القاهرة، 2006.