ترجمة: نجاح الجبيلي
بمناسبة صدور كتاب جديد للناقد الأدبي الإنكليزي تيري إيجلتون، بعنوان «ثوريون في النقد: خمسة نقاد غيّروا الطريقة التي نقرأ بها» الذي يعرفه القارئ العربي من خلال كتابه «الثقافة» وغيرها كتب المحرر الأدبي في صحيفة الغارديان مراجعة للكتاب: ثمة تجربة معروفة في أواخر العشرينيات من القرن الماضي. إذ كلف الناقد آي أي ريتشاردز طلابه في جامعة كامبردج بمهمة قراءة سلسلة من المقتطفات الأدبية القصيرة والمجهولة المصدر. وطلب منهم إيلاء اهتمام دقيق للإيقاع والصوت والنغمة والنسيج وبناء الجملة قبل أن يؤرخوا كل نص. تصور ريتشاردز هذا النقد العملي، كما أصبح يطلق على المنهج، كونه تحديا صارما لما كان يعد نقدا أدبيًا. في فترة ما قبل الحرب، كان أساتذة الجامعات يميلون إلى إصدار أحكام جمالية مبهمة حول «جمال» الكتاب، أو «روحه» قبل الإدلاء ببعض التعليقات حول والدة المؤلف أو ممارسات النشر في ذلك الوقت وغيرها. وعلى النقيض من ذلك، طلب ريتشاردز من طلابه استبعاد كل هذه الثرثرة لصالح ما يمكنهم استنتاجه من الكلمات الموجودة على الصفحة.
في هذا الكتاب المُبهج، بعنوان «ثوريون في النقد- خمسة نقاد غيّروا الطريقة التي نقرأ بها» يصف الناقد تيري إيجلتون التغيير الهائل في النقد الأدبي الذي حدث بين الحربين العالميتين. والمثقفون الخمسة الذين يركّز عليهم هنا هم حتما من الذكور، بالإضافة إلى ريتشاردز، هناك تي إس إليوت، ووليام إمبسون، وإف آر ليفيز، وريموند ويليامز - لأن كامبريدج، الجامعة التي كانوا مرتبطين بها جميعا، لم تكن ترحّب بشكل خاص بالأكاديميات النساء. أو، في الواقع، بأي شخص على الإطلاق: في معظم الأوقات، بدا أن هؤلاء الرجال يكرهون بعضهم البعض بشدة ويستمتعون بالتصريح بذلك. وفي الواقع، فإن الإنجاز العظيم الذي حققه إيجلتون هنا هو النظر إلى ما هو أبعد من تنافس الشخصيات الخمس المخادعة لتحديد الاستمرارية في أعمالهم، والتي أضافت ثورة في الطريقة التي يتعامل بها الناس، ليس الأكاديميون المحترفون فحسب، بل مجتمع القراء بأكمله في العالم الناطق باللغة الإنجليزية.
كشفت تجارب ريتشاردز في كتابه «النقد العملي» أن معظم طلابه كانت آذانهم صمّاء وإدراكهم قليل في فهم الفروق الدقيقة للنص. وكان من المألوف أن يخطئوا في تعريف جزء مبتذل من فكرة عاطفية من العهد الفكتوري على أنه مقطع من أحد الشعراء الميتافيزيقيين الحاذقين في القرن السابع عشر. لم تكن نية ريتشاردز إذلال طلابه، بل الإشارة إلى الطريقة التي تبلدت بها قدراتهم النقدية بسبب هجمة وسائل الإعلام الحديثة، وخاصة الصحافة والسينما. كانت هذه تشبه المقتبسات نفسها التي لصقها تي إس إليوت ببراعة في الأرض اليباب 1922، وهي متوالية شعريّة متنافرة، رحب بها ريتشاردز بشكل مؤثر باعتبارها «موسيقى أفكار».
لم يكن جميع قراء ريتشاردز المقربين الأصليين أغبياء. كان أذكى هؤلاء هو ويليام إمبسون، الذي كتب كتابه الرائع «أنواع الغموض السبعة- 1930» عندما كان عمره اثنين وعشرين عاماً فقط. وهنا، تصبح دراسة إمبسون المبكرة للرياضيات واضحة حين يحل الألغاز اللغوية في أعمال شعرائه المفضلين - بما في ذلك شكسبير و كيتس – بطريقة تضاعف المعاني المتاحة للقارئ النابه. وقد جرى تصدير منهج إمبسون الصارم إلى الولايات المتحدة، حيث أصبح حجر الزاوية في النقد الجديد ذي التأثير الكبير وإن كان جامداً إلى حد ما.
اتخذ أحد تلاميذ ريتشاردز الأصليين خطًا مختلفًا تمامًا. فقد أعلن ف.ر. ليفز أن القراءة عمل أخلاقي جداً، ومن المعروف أنه قضى الكثير من وقته في تحديد المؤلفين الذين يستحقون أو لا يستحقون أن يكونوا أعضاء في «التقليد العظيم» وهو عنوان كتابه، والذي يُفهم بشكل أفضل على أنه فريق كرة قدم خيالي خاص به في الأدب الإنجليزي. كان ديكنز خارج الفريق في البداية ولكن سُمح له بالدخول على مضض. وجرى اختيار كل من جين أوستن وجورج إليوت وجوزيف كونراد للفريق الأول. ومع ذلك، كانت شارة القيادة مخصصة لدي إتش لورانس، الذي كان ليفيز يعشق أعماله بكل بساطة. عند هذه النقطة، لا يستطيع إيجلتون إلا أن يثير تساؤلًا نظراً للأدلة الوافرة على معاداة السامية والشمولية وكراهية النساء في حياة لورانس وكتاباته.
سيكون من الصعب التفكير في أي كاتب أكثر قدرة من تيري إيجلتون على عرض الثقافة الأدبية في فترة ما بين الحربين العالميتين. لقد تميزت مداخلاته النقدية دائما بالوضوح المثالي، ناهيك عن روح الدعابة السخية. هنا، على سبيل المثال، يُظهر لنا ويليام إمبسون العشوائي المشاغب وهو يحاول التخلص من تهمة إزعاج سائق التاكسي الخاص به في طوكيو من خلال الادعاء بأنه وجد صعوبة في التمييز بين الرجال والنساء في اليابان. أو تي إس إليوت، مؤلف الكتاب النقدي «التقليد والموهبة الفردية» ذي التأثير الكبير، إذ كان موضوعه المفضل في أثناء كلامه هو الطرق المختلفة لحافلات لندن.
في هذه الأثناء، ربما كان آي أي ريتشاردز بارعًا في كتاب «النقد العملي»، لكنه كان أيضًا رجلًا سريع التفكير في العمل، حيث قام ذات مرة بصدّ دب في جبال روكي الكندية عن طريق التبول عليه. هدف إيجلتون هنا ليس الاستهزاء أو التقليل من شأن شخصياتهم. إن احترامه لهؤلاء المفكرين، الذين ربما يكون هو العضو الأخير في تقاليدهم النقدية (والذي تعلمها على يد ريموند ويليامز، أصغر أعضاء مجموعة كامبريدج)، يتلألأ بامتنان ومحبة على
الصفحة.