إلى أي حد قد تتوسع الحرب في الشرق الأوسط

قضايا عربية ودولية 2024/01/11
...

• بيتر بيومونت 

• ترجمة: أنيس الصفار                                                     


كان محمد عطعوط، وهو فلسطيني من سكان مخيم برج البراجنة للاجئين في بيروت، يتناول طعامه مع أطفاله مساء الثلاثاء حين ضجت العاصمة اللبنانية بأنباء مفادها أن صالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، قد اغتيل.

يقول عطعوط: «أخبرني أحدهم أن هجوماً قد وقع في بيروت، وإن هي إلا لحظات حتى علمنا من التلفزيون أنه العاروري. خرج الناس إلى الشوارع .. فالضربة أصابتهم في الصميم لأن العاروري كان قائداً له وزنه عندنا.»

في المقهى الذي يمتلكه، والذي ينفتح على شارع مزيّن بالرايات الفلسطينية، كان زبائن عطعوط يتابعون لقطات عن الحرب الدائرة في غزة على شاشة قناة الجزيرة.

يقول عطعوط: «لم يخطر لنا ببال أبداً أن الإسرائيليين سوف يجرؤون على ارتكاب فعل كهذا في بيروت.» ويعتقد بأن سبب مقتل العاروري هو فشل إسرائيل في العثور على قادة حماس وقتلهم داخل غزة، وعلى رأسهم قائد الحركة يحيى السنوار. 

يعتقد عطعوط بأن العاروري، الذي تعرض مكتبه للقصف بالصواريخ، كان ثمرة دانية سهلة المنال، وأن اغتياله جاء للتغطية على بطء التقدم الذي تحرزه إسرائيل في تحقيق أهدافها المعلنة من الحرب.

رغم ضعف قناعته بأن هذا التصعيد المتواصل سوف يفضي إلى حرب شاملة بين حزب الله وإسرائيل، يمضي عطعوط قائلاً: «إنها خطوة دفعهم إليها الغضب من عجزهم عن التقدم، وبها يحاولون التظاهر بأنهم قد أحرزوا شيئاً.»

هذه هي المسألة التي بقيت مهيمنة على الجدال في لبنان، وفي المنطقة على نطاق أوسع، خلال الأيام التي أعقبت مقتل العاروري، رغم العودة القلقة لشيء من طبيعة الأجواء إلى ضاحية بيروت الجنوبية التي تعدّ من معاقل حزب الله. فقد عاد الزحام من جديد إلى الشوارع التي أقفرت بعد الضربة مباشرة، ولكن القلق لا يزال جاثماً على الصدور، وقد لخص رئيس وزراء لبنان المنتهية ولايته نجيب ميقاتي في حديثه يوم الجمعة الماضي ما وصفه بـ «خطر محاولات جر لبنان إلى حرب إقليمية ستكون لها عواقبها الوخيمة، لاسيما على لبنان والدول المجاورة.»

في صباح يوم السبت الماضي، وإذ أمطر حزب الله شمال إسرائيل بعشرات الصواريخ، معلناً أن هذا الوابل ليس سوى رد أولي على مقتل العاروري، اكتسب تحذير ميقاتي عمقاً إضافياً. فقد سلط هذا التبادل الناري عبر الحدود، الأضواء على حقيقة أن النزيف الذي تسببت به الحرب الإسرائيلية على حماس، وبعد مرور ثلاثة أشهر على اندلاعها، قد بدأ ينساب متوسعاً أكثر فأكثر في أنحاء المنطقة.

منذ 8 تشرين الأول، غدا تبادل إطلاق النار بشكل محدود عبر الحدود، بما في ذلك الغارات الجوية والهجمات بالطائرات المسيرة، حدثاً يومياً بين إسرائيل وحزب الله، وبعض الفصائل الأخرى أيضاً في لبنان، موقعاً الإصابات والخسائر في الجانبين. بينما راح الحوثيون اليمنيون يطلقون الهجمات بالطائرات المسيرة بعيدة المدى، مهددين حركة الشحن التجاري البحري عبر الممرات الرئيسية في البحر الأحمر. وفي الأسبوع الماضي ادعى تنظيم «داعش» مسؤوليته عن تفجيرين وقعا وسط الحشود في جنوبي إيران، وتسببا بمقتل ما لا يقل عن 84 شخصاً، في حين أسفرت ضربة جوية أميركية في بغداد عن مقتل قيادي في إحدى الفصائل.

لكن في لبنان تصاعدت خطورة الوضع أكثر من أي مكان آخر، مقوضة صيغة التفاهم الهشة بين حزب الله وإسرائيل، التي بقيت قائمة منذ حرب لبنان الثانية المدمرة في 2006. 

في الأسبوع الماضي، حين ألقى الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله خطابين عبر التلفزيون، موجهين إلى الأمة في أعقاب اغتيال العاروري، أشار بشكل محدد وليس للمرة الأولى إلى «القواعد» التي كانت تعمل أحياناً على تخفيف العنف الأدائي بين الجانبين. ففي خضم التهديدات والخطابات بقيت تلك القواعد منذ وقت طويل تحدد المدى الذي قد يذهب إليه كل من الطرفين، سواء في الاستهداف أو الرد الانتقامي، مع البقاء دون حد الحرب الشاملة.

في مختلف أنحاء المنطقة، وفي أية بقعة امتد إليها صراع غزة، ساعدت الحرب مع حماس على إذكاء توترات كانت قائمة سلفاً.

في لبنان كان الشأن الأبرز هو فشل كلا الجانبين في تطبيق الهدنة التي أقرتها الأمم المتحدة، وانتهت بموجبها الحرب في العام 2006، وكان مفترضاً بها أن تحقق انسحاب مقاتلي حزب الله من المنطقة الحدودية. 

من الواضح أن اغتيال العاروري قد أودى بمعادلة الردع المتبادل، كما يصفها نصر الله، إلى حافة الهاوية في أعقاب أول ضربة إسرائيلية تصيب العاصمة اللبنانية منذ 2006. ورغم محاججة البعض بأن اغتيال مسؤول كبير في حركة حماس (بدلاً من شخصية في حزب الله) يتيح لحزب الله حيزاً للتملص والمناورة، عاد نصر الله يوم الجمعة الماضي مكرراً للمرة الثانية في ظرف ثلاثة أيام، أن جماعته الآن باتت ملزمة بالانتقام، وأضاف أن لبنان كله بخلاف ذلك سوف يصبح عرضة للهجوم من قبل إسرائيل. 

قال نصر الله: «لا يمكننا البقاء صامتين إزاء خرق بهذه الخطورة، لأن هذا معناه أن شعبنا كله سيصبح معرضاً للخطر، ومدننا كلها وقرانا وشخصياتنا العامة سوف تصبح مكشوفة.» ثم اختتم كلامه مضيفاً أن تداعيات الصمت ستكون أعظم بكثير من مخاطر الرد. وقال مؤكداً إن الرد الآن لم يعد منه بد.

مع ذلك، وما إن بدأ نصر الله الكلام، حتى انطلق المحللون والمسؤولون والصحفيون يوسعون كلماته تحليلاً وتمحيصاً لاستشفاف النوايا الكامنة وراء خطابه، وما إذا كان حزب الله يسعى إلى تجنب مواجهة واسعة النطاق، كما تكهن كثيرون خلال الأشهر الثلاثة الماضية.

إذا ما وضعنا اغتيال العاروري جانباً، فإن المحللين يرون في المواجهة محدودة النطاق حول مسألة الحدود شكلاً من التفاوض في شؤون لم يفصل فيها منذ حرب 2006. إذ أرسل نصر الله إشارة – ربما بشكل مقصود -  يوم الجمعة، مفادها أن حزب الله منفتح للتوصل إلى حل بمجرد انتهاء الحرب في غزة، وطرح الأمر باعتباره «فرصة تاريخية» لاستعادة أراضٍ بقيت طويلاً تحت الاحتلال الإسرائيلي.

استشفاف المعاني من غوامض نصر الله الحذرة فن بقدر ما هو علم، مثلما كان عليه الحال مع خفايا علم الكرملين في أيام الحرب الباردة. ففي الأسبوع الماضي تساءل البعض إن كان الرجل أكثر ابتساماً في هذه المرة، في حين حاول آخرون استطلاع ما استنتجه مستمعوه من أجزاء مختلفة من رسالته.

هل كان الحديث عن الحل موجهاً إلى الولايات المتحدة، للإيحاء بأن حزب الله يتمتع بالبراغماتية؟ أم كان موجهاً إلى إسرائيل؟ وعندما رسم رؤية لمستقبل للمنطقة ينحسر فيه نفوذ الولايات المتحدة، هل كان يخاطب حزب الله فقط، أم طيفاً أوسع من (ما يسمى بمحور المقاومة)؟.

ترى «سانام فاكيل» مديرة برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معهد «تشاثام هاوس»، أن عودة المبعوث الأميركي الخاص «آموس هوتشتاين» المفاجئة إلى بيروت في الأسبوع الماضي، فيها إشارة إلى احتمال أن يكون هناك وراء العنف المحتدم على الحدود والحديث عن توسع الحرب، جهود تبذل للتوصل إلى مخرج يقبله الطرفان. 

تضيف فاكيل، أن من المحتمل أن يكون هنالك حل «لحفظ ماء الوجه» قيد العمل من شأنه إبعاد كلا الطرفين عن حافة المواجهة، رغم أن وزير الدفاع الإسرائيلي «يواف غالانت» قد أخبر هوتشتاين أن نافذة الحل الدبلوماسي ضئيلة وهي تضيق.

تعتقد فاكيل، بأن التصعيد لن يكون في صالح حزب الله أو إسرائيل. تقول حجتها إن «الفرق الكبير بين ما حدث بعد 7 تشرين الأول وحرب 2006 هو أن حزب الله قد غير حساباته وتطلعه لركوب المجازفات .. لأنه اليوم لديه ما يخسره وهو أكثر بكثير مما كان». 

وتقول: «لقد غدا حزب الله لاعباً مؤسسياً رئيسياً في النظام السياسي اللبناني، وهو أكثر بكثير مما كان، والنظام السياسي في لبنان هش للغاية. حزب الله لن يرتضي اليوم أن ينظر إليه بأنه كان المتسبب بانهيار لبنان رسمياً، فبمجرد تحوله من لاعب مؤثر خارج نظام الدولة إلى جزء من الدولة، أصبح خاضعاً للمساءلة.» 

على الجانب الإسرائيلي أيضاً، برغم كل الكلام الذي يتردد عن حالة الاستعداد العسكري العالي لدى الجيش، وإعلان القدرة على القتال في جبهتين، يبرز إجماع على أن البلاد تفضل تجنب توسيع رقعة الصراع، وهي تعاني بعد من الآثار الاقتصادية والاجتماعية الشديدة التي أوجدتها أحداث 7 تشرين الأول والحرب على غزة التي أعقبتها. 

لكن ثمة عوامل أخرى إزاء هذا التحليل.

فمع تسبب القتال بنزوح عشرات الآلاف من السكان على جانبي الحدود من مناطقهم، باتت حقيقة الصراع، الذي لا تلوح له في الأفق نهاية حالياً، تهدد بخطر خلق ديناميكيتها الخاصة. إذ أوجد تحول شمال إسرائيل إلى منطقة عسكرية مفرغة من السكان، تتجاوب فيها يومياً أصوات الانفجارات، زخماً سياسياً متصاعداً لحل مشكلة الحدود الشمالية مع لبنان، سواء بالتسوية عبر المفاوضات أو بالوسائل العسكرية.

منذ الآن، وعلى مدى الأشهر الثلاثة الماضية، كان المنظور الجغرافي للضربات، من الجانب الإسرائيلي على الأقل، يزحف تدريجياً في عمق الجنوب اللبناني.

لذلك أبرز شعور نصر الله بضرورة التحدث في الأمر مرتين خلال ثلاثة أيام أمرين مهمين، الأول هو شعور الحزب الملحّ بضرورة الرد، والثاني هو شدة الضغط الذي سلطه اغتيال العاروري على الحركة. لذا لم يعد أمام نصر الله بد من أن يبرر بصراحة المخاطر التي يواجهها لبنان، والفوائد التي يمكن أن يجنيها من خوض تلك المخاطر.

في حديث مع صحيفة «فايننشيال تايمز» قالت أمل سعد، الخبيرة بشؤون جماعة حزب الله: «على حزب الله أن يرد بسرعة. ففي سياق الحرب يجب عليك أن تستعيد توازن الردع.» مضيفة أن «الموقف يجب أن يتضمن تصعيداً نوعياً من حيث المنظور والشدة، لكن دون الوصول إلى مستوى الحرب مرتفعة الشدة.»

سواء كان هذا التظاهر، على الصعيدين العسكري والدبلوماسي، في نهاية الأمر، مجرد شكل من أشكال التفاوض الخطر، أو لم يكن، فإن الأمر الواضح لدى الكثيرين هو جسامة الخطر الذي يمكن أن ينجم عن خطأ حسابات قاتل يقع فيه أي من الطرفين، من دون أن يتمكن المخططون العسكريون الإسرائيليون في «كيريا» بتل أبيب، أو نصر الله ومستشاروه، من التحسب له.

في مقهاه يجلس عطعوط صباح السبت متأملاً ردود حزب الله التي أخذت بالظهور ثم يقول: «الدول العربية لا تقدم شيئاً للفلسطينيين، وليس لنا إلا الله وأنفسنا والشيعة الذين يقاتلون عنا. حيثما وجد الشيعة – مثل حزب الله – كان هناك أناس يعملون».


عن صحيفة الأوبزيرفر