اللاوعي هو القدر

ثقافة 2024/01/14
...

 جينا سلطان

يقود الجذر اللغوي للشخصية (بيرسونا) إلى معنى القناع، الذي يحجب الصراعات الداخلية بين العقل والنفس، إلا ما ينعكس منها شذرا فوق سيماه الوجوه، وفي نظرات العيون التي تجسد مرايا الأرواح. وبمقدار ما تتكاثف الظلمات في النفس يتعاظم حجم الظل المسقط على كاهل عدو منفصل ومستقل عن الذات المتشظية بفعل غرقها في محاربة الثنائيات المتضادة. وهو ما يتيح معاينة ثنائية الجريمة والعقاب بمعزل عن القوانين الوضعية، ومبدأ العين بالعين والسن بالسن، إذ يبرز دور اللاوعي في استنساخ الفعل ورد الفعل وفق إحداثيات مختلفة، تعيد الشحن العاطفي للمشهد الكامن في عمق الذاكرة. فيقاضي دوستويفسكي نفسه من خلال راسكولينكوف بطل «الجريمة والجريمة»، عن غوايات عقليته المستنزفة شقاء وألما، ويضع ذخيرة فكره المتقد في الأمير ميشكين، الذي يجسد التوق إلى معانقة حلم النقاء.
بالمقابل، تتبنى الكاتبة والطبيبة النفسية «غليسران أوغلو» فكرة القدر التي تبحث دوما عما تعودت عليه وتعلمته وألفته، وتسقطها على اللاوعي، الذي يأخذ الإنسان الى أمكنة تستنسخ مشاعره بالقوة والألم نفسه، فيصبح مسؤولا مباشرا عن الثواب والعقاب المرتبط بكينونته. ولأن حياتنا والقرارات التي نتخذها غالبا ما تتشكل من آلام طفولتنا، يظل اللاوعي في بحث مستمر عن علاج لها، وفي الوقت نفسه، يتقصى طرقا مغايرة تجعلنا نختبر تلك المعاناة مرارا وتكرارا، حتى نصبح مدمنين على الألم. وهذه الفكرة تختزلها الكاتبة بالتساؤل: «هل من السهل أن تجعل المرء يفهم أن الله قد أملى على الإنسان مصيره؟».
إذا كان الجحيم هو غياب الحب بتعريف دوستويفسكي، فإنه وفق علم النفس سبب معظم الاعتلالات والانحرافات الأخلاقية. فالعطش للحب عند الروائي الياباني يوكيو ميشيما دفع إحدى شخصياته النسائية لقتل عشيقها، وكان الدافع الحقيقي وراء كتابة رباعيته الشهيرة «بحر الخصب»، حيث يتناسل الحب المجهض مع الأقمصة الأربعة المخصصة للشخصية المحورية كيواكي.
بالمقابل، تؤطر أغلو أوهام الحب وتبرز دورها في صياغة الملهاة الإنسانية، من خلال الشخصية النرجسية في روايتها «إذا خسر الملك»، وشخصية الضحية في رواية «فتاة النافذة»، بحيث تدور الفكرة الرئيسية حول «اللاوعي هو القدر»، على غرار كتاب الباحث الألماني دتلفزن «القدر بوصفه فرصة»، والذي يحاول لفت الأنظار نحو طبيعة المرض وعلاقته بماهية الخلل في الجسم.
في روايتها «الملك يخسر»، تكرر الشخصية المحورية كنان نقوشها من دون أي تغيير، عبر سلسلة من العلاقات العاطفية، قوامها الإثارة التي ما أن تنتهي حتى يفقد أي اهتمام بشريكته. ومن هذا المبدأ يعرف كنان نفسه من خلال النساء، ابتداء بزوجته المستكينة لنرجسيته، وانتهاءً بالعشيقة، بحيث تترجم حاجته المستمرة لوجود النساء بشعوره بالإمحاء في غيابهن. وتبرز في خلفية المشهد أم متفانية تخلى عنها الزوج، فربت وحيدها كالملك.
لأن تغيير النفس أصعب من تحريك العالم، يعجز كنان على إدراك ذنبه، لكنه في الوقت نفسه يعيش منتظرا عقابه، المجبول من لعنات النساء اللواتي خذلهن. وبما أن “القدر يعمي عيني الإنسان ولا يظهر الحقائق بل يجعلها تتجلى تجليا”، يتحول غضب النساء اللواتي أحببنه ولم يحبهن بمرور السنين إلى يأس ويحل الانتقام محل العشق والغرام والحب. وتوقع هذه الحقيقة يواصل نهشن مثل الدود، الذي يتضخم حتى يتخذ شكل قرار بالنبذ عند الزوجة والعشيقة معا، ليبدأ التردي وخسارة الامتيازات المادية والغرق في ظلمة النفس، رغم محاولات الطبيبة المستميتة إقناع مريضها بأن الطب النفسي هو فن مسامحة النفس. ومع استمرار رفض كنان لتقبل الخسارة ينعدم الأمل في وجوده عبر فعالية التفكير في الكفاح أو العطاء أو التغيير، فيستسلم للإنكار والتمرد.
 تدير أوغلو روايتها “فتاة النافذة” وفق طريقة الثرثرة النسائية المحببة عند شرب القهوة وطب الفنجان لمحاولة استقراء المخبوء، الذي يستبطن تبادلا طاقيا يعمق الخبرة الأنثوية ويشحن المؤازرة القائمة على التعاطف. وتستخدم مجددا ثنائية الزوجة والعشيقة لتبرهن أن تمكن الإنسان من إدارة وضعه يجعله أقرب إلى حالة السعادة، التي تمثل قراراً وليس انتظارا لقدوم شخص أو إنجاز هدف أو تحقيق مكانة رفيعة.
ومجددا نقع على ذات العبارة التي تقول بأننا نتعرف على الأشخاص الذين سيجعلوننا نعاني نفس الألم الذي شعرنا به في طفولتنا، من خلال عيونهم، ومع ذلك نقع في حبهم، بعيدا عن الصدفة، إذ أن الحياة تجعلنا نجدهم. فالفتاة التي ربتها أم نرجسية ستبحث عن شريك نرجسي، والشاب الذي تلقى الضرب والإهمال من والده سيجذب لنفسه امرأة شرسة، تعيد مشكلة الطفولة وتجدد متاهاتها. وفي كلا الحالتين يتبدى الحب علاجاً لكل مشكلة، وإثباتا بأن معظم الأمراض المميتة سببها قلة الحب.
تبدت معاناة نالان في غياب القدرة على استخدام ضمير الأنا، وظلت تتصرف وفقا لإملاءات الآخرين ومشاعرهم، وكأنها تعمد إلى إنكار وجودها في هذا العالم. وطوال جلسات العلاج النفسي كانت تذرف الدموع خجلا أمام الطبيبة، لكونها من أولئك النادرين الذين يظلون بشرا بما يكفي كي يخجلوا، علما بأن الحياء ليس سمة عامة عند غالبية البشر. وتلك الدموع حاولت حبسها طوال سنوات، وهي تقاوم الموت والعجز والخوف.
عاشت نالان طفولتها حبيسة غرفتها الفخمة، الأمر الأشبه بعقوبة الحبس الانفرادي، وكانت نافذتها منفسها لرؤية تجليات الحياة. ولأنها أتت كثمرة لسفاح القربى، حين اغتصب الخال ابنة أخته، التي ماتت وهي تلد، حملتها جدتها مسؤولية وفاة طفلتها الوحيدة، وحكمت عليها بالنبذ الاجتماعي.
وهذا التجاهل يوصل للطفل رسالة خطيرة مفادها “أنت غير موجود”؛ رسالة توجهها الأم للأطفال الذين تم إهمالهم، فيصبحون حساسين جدا لمثل هذه الرسالة عندما يكبرون. كحال نالان التي تزوجت رجلا ثريا عاملها كأميرة، لكنه في الوقت نفسه دأب على تجاهلها وإهمالها، لوجود عشيقة في حياته. ولأن هؤلاء المنبوذين يتوقون بشدة لحصد كل الاهتمام، فإنهم ينكسرون عندما لا يحصلون عليه، حتى أن البعض منهم يشعر بالإهانة من هذا العالم، كحال خيري، الذي ماتت أمه حين كان طفلا، فملأت النساء الفراغ في داخله، ومع ذلك عاش تحت سطوة الخوف من الرفض والاحتقار والإذلال.
 تعرض خيري للضرب المبرح بسبب فرط الحركة، فكان يضرب أقرانه وزوجته القروية. وحين عاش مع نالان توقف عن ضرب أي شخص، فقد جعلت منه إنسانا بعد أن دمرت الغضب الذي في داخله. ولأن النبالة المجسدة فيها كانت غريبة عليه، تركها ليعود إلى مكب النفايات القديم؛ المكان الوحيد الذي يعرفه، فعشق فتاة اللاز التي جسدت النسخة المؤنثة منه. ومثلما زاد من قيمته بنالان كذلك فعلت الفتاة بخيري، فصممت على غسل شرفها بالارتباط به، كي تمسح التبعات النفسية لتحرش الأب بها، وهو ما أجبرها على العمل بالدعارة لتساعد أمها المنبوذة.
حكمت نالان على نفسها بخيري، لكنه لم يكن محكوما بها، بل اعتبرها ثمينة وملكا له، من منطق الإدمان، الذي يحول شعور الحب إلى عادات والتزام. وبسبب التمزق بين المرأتين شرع في الاستعداد للتماهي بدور الضحية الخاضعة للقدر، فجذب العقوبة مثل المغناطيس، وعجز عن تجنب المصير الذي كتبه اللاوعي له، فقتلته فتاة اللاز أمام أنظار زوجته وبناته.
رغبة الإنسان بأن يكون محبوبا توقعه في مطبات كثيرة، يرفض التعامل معها، بسبب الخوف من مواجهة بيئات مختلفة، وبذلك يتناسى الحقيقة التي تقود إلى أن كل هزيمة تفتح أبوابا جديدة للإنسان المستعد لتقبل التغيير، وهذا ما يجعل الحياة مبدعة.