جاكلين سلام
كي نكتب بصوت منفرد لا بد أن نتجاوز الحيز المحدود للمكان والزمان وما يوفره لنا من معطيات قد تبدو ضحلة وباهتة لذلك نبحث عن أبجدية نلتقي من خلالها بشخصيات تتجاوز الواقع وتدلنا على ما نشتهي في العمق، وما نحلم به من أشياء ننفيها عن وعينا كي نظهر في ثوب القبول الأنيق المتمظهر اجتماعيا. وهناك في الكتب نجد متسعا لنا ومنا بين سطور قد تتقاطع مع بواطننا، أو تخترق السطوح وتقترب من الفانتازيا اللامعقولة في زمن يحب الصدمات والدهشة الفارطة السحرية مثل كتابات ج.ك. رولينغ وغيرها.
حين بدأت الانكليزية ج.ك. رولينغ تكتب قصصها الخيالية وإلى أن صارت صاحبة سلسلة «هاري بوتر» الشهيرة، كانت تكتب بيدها 3 نسخ من كل رواية لأنها لم تكن تملك المقدرة على كلفة النسخ والطباعة. ومع الزمن اكتسحت الساحة وبعد رفض نشر روايتها الأولى من قبل عدة ناشرين. ثقتها بموهبتها وعملها الجاد المستمر بلور صوتها الخاص الذي رافق ملايين القراء حول العالم. ومهما حصل من نقد لها لن تموت رواياتها لأن شياطين الموهبة وسحرها ستحميها من الإحباط، في زمن يكثر فيه المشعوذون والسحرة بألف قناع. مع الملاحظة بأنّ ناشر كتبها لم يرغب في وضع اسمها الأول كامرأة على غلاف الكتاب كي لا يؤثر على سوق البيع، وبغض النظر عن القيمة الأدبيّة والتقييم النقدي لإصداراتها التي ينتظرها قراء من العالم وبالملايين. اكتفى الناشر بالحرف الأول من اسمها الأول. وحدث هذا مع عدد من الشخصيات النسائية الشهيرة عبر التاريخ في الشرق والغرب.
الكاتب الأمريكي «جاك لندن» الذي أنجز 50 كتابا في حياته، لم يتلق التعليم المدرسي الرسمي والأكاديمي، بل علم نفسه أسرار وفنون الكتابة بالبحث في كتابات كبار الكتاب مثل ديستويفسكي ونيتشه، وغيرهم من كتاب العالم المشاهير في عصره. كان يهمه تحقيق إنجازه من أجل متعته الشخصية أولاً، وكي يشعر بذلك النصر الصغير حين إنجاز النص.
كتب جاك لندن: الأشياء التي أحب تُملي قائمة أولوياتي. الأشياء التي أحب بعمق هي الإنجاز الشخصي وليست إنجازاً من أجل تصفيق العالم، بل التحقق من أجل متعتي. إنه القول القديم: «أنا فعلتها، لقد فعلتهاـ بيدي فعلتها» ربما لم يتوفر هذا الشعور بالمتعة والثقة عند كثيرين من الكتاب الكبار الذين انتحروا لأسباب متفرقة.
هل النقد الجارح قادر على قتل الشخص فعلياً وإبداعياً؟
إذا نظرنا في حيوات ونهايات عدد من الكتاب المهمين عالميا سنقع على مفارقات شتى، كانتحار الكاتب العريق ارنست همنغوي وفرجينيا وولف، وسيلفيا بلاث ومايا كوفسكي، وخليل حاوي...والقائمة تطول. هل هي خيبة العجز عن تحقيق الحلم على أرض الواقع، أم أزمة ثقة بين الكاتب وأدوات عمله، وفشل الوصول والحيازة مردود اجتماعي وسياسي مقابل ترف الأحلام وخسارتها! تختلف الأسباب والظروف ولنا في الأدب الكندي هذه الشخصية المختلفة التي عبرت القارات والعالم عبر رواياتها « آن المراعي الخضراء» وغيرها.
هل قتل النقاد لويس مود مونتغمري أم فتك بها المرض النفسي فانتحرت؟
كتبت الروائية الكندية لويس مود مونتغمري «ما كان يبدو سهلاً في الخيال، كان في الواقع كان « وهذا يقودنا إلى وتلك المساحة ما بين المتخيل وإمكانية نقل مايجري في الخيال إلى الكتاب، هي المحك والمهارة ودرجات نقائها تتفاوت.
ماذا حدث في نهاية حياة الكاتبة الكندية التي ملأت شهرتها الآفاق وصارت شخصيات كتبها معروفة في العالم، وصار بيتها مزاراً يحج إليه زوار من كندا ومن العالم للتعرف على تلك الرقعة من الجغرافية التي قدمت تراثا للبشرية من خلال شخصية ( آنا المراعي الخضراء) وكتب آخرى موجهة للكبار والصغار؟!
لويس مونتغمري، انتحرت في بيتها الأخير في مدينة تورنتو الكنديو بعد أن أرسلت المخطوط الأخير للناشر في ذلك اليوم. لماذا؟
ورد في مذكراتها أنها عانت الاكتئاب الشديد بعد موجة النقد الحاد التي تلت شهرتها الواسعة. القصة مؤلمة ولكنها حقيقية. هل لدى الكاتب ما يكفي من الحصانة النفسية والثقة بالنفس كي يدير ظهره للعالم، بعد أن ينجز عمله ويرسله إلى القراء وهو يقول» لقد فعلتها بنفسي»؟
في دفتر اليوميات كتبت مونتغمري بأنها صارت تعاني من أمراض نفسية وكآبة شديدة، من أسبابها النقد اللاذع والسخرية التي تعرضت إليها من قبل الجيل الجديد من القراء الذين سخروا من أفكارها ومهاراتها وأتهموا كتابتها بالسطحية... (ورد ذلك في مقال عنها في صحيفة غلوب& ميل الكندية)
بعد نجاحها الكبير الذي يحتفى به حتى اليوم، كانت تتلقى من قبل بعض «الذكور»، السخرية والتهكم. وهذا كسر روحها فاعتزلت العالم الخارجي. ضعف مناعتها النفسية وقواها الروحية السيكولوجية، جعلها ضحية الإحباط والاكتئاب في الوقت الذي كان فيه الحديث عن الأمراض النفسية ومعالجتها عاراً يجب التكتم عليه. وهذا ما كان من حال كاتبتنا الشهيرة، إذ بقي أمر انتحارها مخفياً عن المجتمع إلى أن قررت جدتها أن تعلن حقيقة موت الكاتبة بشكل منفتح بغية دفع الناس لطلب العلاج النفسي قبل السقوط في بئر لا خلاص منه، كالانتحار لأسباب نفسيّة، أو عاطفيّة، أو لأسباب تتعلق بفشل الحلم الثوري لدى البعض كمثل مايا كوفسكي الروسي، وخليل حاوي، اللبناني الحالم.
ليست الكتابة خطراً على مبدعيها إلا بالقدر الذي يفقد فيه صاحب الموهبة مقدرته على التوازن ما بين أعمال مخيلته وطموحاته وما بين رحى الحياة بكل متطلباتها. وقد تكون الكتابة ناقوس خطر وتحد للمسكوت عنه لذلك يجد أتباع الأخ الأكبر طرقاً ملتوية لقتل أصحاب الموهبة وإرغامهم على الموت مرة واحدة أو بدرجات. لم تنتحر الكاتبة اللبنانية ليلى بعلبكي بعد محاكمتها بسبب رواية خرجت عن النسق، بل صمتت بعدها حتى الموت.
*كاتبة ومترجمة سورية كندية