فايزة داؤد
يبدو هذا العنوان مشروعا لأن من يقرأ قصة «الله والفقر» التي سميت المجموعة القصصية باسمها سيشعر باختلاف عالمها عن عالمي قصتي «قبل السهرة» و«العطب»، أو لنقل عدم التجانس الشكلاني بينهما. ويصل الأمر حين تجرى المقارنة درجة تجعلنا نتساءل ما إذا كان للتنوع في حياة الكاتب وتغير الواقع الطبقي أو الاجتماعي علاقة وثيقة بنصه الإبداعي.
بمعنى آخر هل أسعد الوراق في قصة «الله والفقر» يمثل الوضع الطبقي والاجتماعي لمرحلة معينة من حياة صدقي اسماعيل؟ وإذا كان الأمر كذلك، ماهي المرحلة العمرية، أو الواقع الطبقي والاجتماعي الذي يمثله بطلا قصتي قبل السهرة والعطب بالنسبة لصدقي إسماعيل القاص والمسرحي والروائي والباحث والمفكر القومي.
قد يكون الفرق بين قصة الله والفقر وقصتي قبل السهرة والعطب يقتصرعلى الفرق بين عالم الريف وعالم المدينة فكلاهما مثقل بما يرهقه ويجعله ليس فقط عاجزاً عن النهوض بل كذلك قاتلاً لنفسه ومدمراً لثلاثية الحب والخير والجمال.
يحمل أسعد الوراق في رأسه موروثاً راكمته عقود وربما قرون من الجهل والضياعٍ. ولا يرى من داعٍ لتغييره ليس لعجز في نفسه أو ضعف في بنية جسده، بل لأنه إرادة إلهية ولا يجوز التمرد على تلك الإرادة مهما ظلمت وقهرت وأذلت. لكنه في ذروة ألمه وبعد أن يخسر كل شيء، يثور على تلك الإرادة ويقدم نفسه المقموعة والخانعة قربانًا ينقذ من خلالها مجرماً فاراً من وجه العدالة.
أما قصة «قبل السهرة» فهي المدينة المثقلة بالكذب والنفاق وحب المادة وإخفاء كل تلك التشوهات بالمظاهر البراقة والخادعة، حيث يموت فيها الجمال بصمت بعد أن تحكم المرأة الشابة على نفسها بالعقم، وقد يظن القارئ أن حادثة الموت الغامضة قصة بوليسية سيكشف فيها الكاتب عن القاتل، نعم.. يوجد كشف في القصة، لكن ليس عن قاتل الجسد، بل عمن قتلوا العاطفة بكل تجلياتها، وهم مجموعة من الأهل والأصدقاء. وهؤلاء كانوا يظهرون الحب والصدق والوفاء للضحية، فإذا بحادثة الموت الغامضة تكشف نفاقهم وكذبهم وغيرتهم، بل وحسدهم الشديد الذي يجعل بعضهم يفرح لموت المرأة الجميلة. أما الطبيب الذي كان صديق العائلة فيصرح بأنّ موت المرأة سيجعله شاهدًا وحيدًا على تواطئه معها في تحويلها إلى امرأة عاقر.
القصة الثالثة والأخيرة في المجموعة يستعرض فيها الأديب العلاقة بين عالمين مختلفين.
العالم الأول يمثله الروائي القادم من بيئة ريفية متواضعة والحالم بمدينة تكافئه على ما يعتقد أنه إبداع بعد أن تجاهلته قريته وسخر منه أبناؤها، أما العالم الثاني فيمثله محافظ المدينة وعائلته الصغيرة، وفي هذه القصة يلبي الروائي دعوة المحافظ إلى قصره ثم يتقمص شخصية بطل روايته التي ضجت بها المدينة ليعيش حياة البطل العاشق، خاصة وأنه التقى في قصر المحافظ بفتاة تعاني من تشوه في بنيتها الجسديّة ذكره بتشوه بطلة روايته ذائعة الصيت، وعلم في أول زيارة لقصر المحافظ أنها ابنته الوحيدة، وفي هذه القصة يكشف لنا صدقي إسماعيل عقلية رجل السلطة وكيفية تعامله مع الثقافة حين يختار أديباً وصوليا يفتقر للموهبة كي يفضح لنا العلاقة بين السلطة ومشروعها الثقافي البائس والقائم بالأساس على ادعاء السلطة برعاية الثقافة ليقوم من يمثل الأخيرة باستغلال السلطة ومن ثم فضحها والتخلي عنها بقلب بارد بعد أن عدّ استمرار علاقته بها انتحارًا له وتشويهاً لمشروعه الأدبي.
إذا افترضنا أن مجموعة «الله والفقر» القصصية هي عوالم صدقي إسماعيل، أو لنقل حيواته التي احترق في مطاهرها المختلفة، وهذا ما يبدو عليه الأمر فأننا نرى أسعد الوراق في قصة «الله والفقر» واقعاً عرفه صدقي إسماعيل وأبناء جيله عن قرب وعايش بطله بكل ماتعني كلمة العيش من معاني وتفاصيل، وربما عارك مثله مع فارق يتجسد في طريقة التمرد على ذلك الواقع، فالتمرد عند أسعد الوراق كان ميتة أو انتحارا لموروث جرده من كل شيء، بينما الثورة في حياة إسماعيل كانت في نضاله الوطني وبما خلفه من آثارٍ إبداعية خالدة.
لا يبدو إسماعيل في قصة «قبل السهرة» حاضرًا كما هو عليه الحال في قصة «الله والفقر»، بل ثمة غربة تفصله عن ذلك العالم على الرغم من وضوح رسالة القصة، فالموت حاضر بشدة وهو احتجاج وثورة مجانية على الزيف والظلم والفساد كما هو الحال في قصة «الله والفقر».
أما قصة «العطب» فتلخص واقعاً ثقافيا ما زالت تمارسه حكومات العالم العربي حين تقوم بتلميع عديمي الموهبة وتروج لهم بصفتهم واجهة البلد الأدبيّة والثقافيّة، وهؤلاء ينقلبون بسرعة على الاتفاق أو التواطؤ على السلطة كي يبرؤوا أنفسهم من تبعيتهم لسلطة سياسية منافقة ومستبدة وجاهلة.
أخيراً لابد من القول إن مجموعة «الله والفقر» القصصية التي تتناول عالمين يشكلان البيئة العربيّة عدا أنها تغوص في عمق النفس الإنسانيّة على اختلاف منبتها، فهي كذلك تصور واقعاً سياسياً لاتزال آثاره ماثلة أمام أعيننا في أماكن متفرقة من عالمنا العربي، وهواجس صدقي إسماعيل وحيواته تتكرر في المجتمعات العربيّة ما يجعله صاحب مشروع نهضوي لأمة تقدس عيوبها.